في قلب المشهد السوري المعقد، حيث تتداخل خيوط الأمل بتشابكات الأزمة، تبرز صفقة الطاقة الضخمة التي أُعلن عنها مؤخراً كمحطة فارقة في مسار إعادة إعمار بلد أنهكته الحرب. تحالف دولي، تقوده شركة "يو سي سي هولدنجز" القطرية، يضع على الطاولة استثماراً بقيمة 7 مليارات دولار لإنشاء محطات طاقة، بما فيها أربع محطات تعمل بتوربينات غازية وأخرى للطاقة الشمسية. هذا المشروع، الذي يُعدّ الأضخم من نوعه في سوريا منذ رفع العقوبات الأمريكية بشكل مفاجئ الشهر الماضي، يحمل في طياته وعداً بإحياء بنية تحتية دمّرتها سنوات الصراع، لكنه يصطدم بحقائق الأرض القاسية.
سوريا اليوم ليست مجرد أرض جغرافية، بل مسرح لصراعات متعددة الأوجه. شبكة الكهرباء، التي كانت تصل إلى 99% من السكان قبل عام 2011، باتت اليوم ظلا باهتا لما كانت عليه، حيث لا يتجاوز إنتاجها خُمس طاقتها السابقة. ثلثا الشبكة مدمر أو بحاجة إلى إصلاحات جذرية تُكلّف، وفق تقديرات وزارة الطاقة، 5.5 مليار دولار، وهي أموال لا تملكها الدولة السورية المثقلة بأعباء الحرب وانعدام الموارد. لكن المشكلة لا تقتصر على التدمير، بل تتعداه إلى ظاهرة النهب المنظم. عصابات مسلحة، تستفيد من الفوضى التي خلّفها سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، تستهدف الكابلات النحاسية والألمنيوم في أبراج النقل، لتبيعها في السوق السوداء. محطة دير علي، أكبر محطات توليد الكهرباء جنوب دمشق، تروي قصة هذا الانهيار: كابلات مقطوعة تتدلى من أبراج أصبحت بلا جدوى.
في هذا السياق، يبرز السؤال: كيف يمكن لاستثمار بقيمة 7 مليارات دولار أن ينجح في بيئة يُسرق فيها أكثر من 80 كيلومتراً من الكابلات في جنوب سوريا وحده منذ سقوط النظام؟ وزير الطاقة محمد البشير يراهن على ثلاث سنوات لإتمام المشاريع القطرية وإعادة تأهيل الشبكة، لكنه يعترف ضمناً بحجم التحدي. فرق الصيانة تجد نفسها في سباق مع اللصوص.
هذه الصورة ليست مجرد تحد تقني، بل تعكس أزمة أعمق تتعلق بالأمن والاستقرار. سوريا، لا تزال في مهدها كوجهة استثمارية. غياب عملة مستقرة، وتدهور القطاع المصرفي، وانعدام السيطرة الكاملة على الأراضي، كلها عوامل تجعل المستثمرين يترددون. ومع ذلك، فإن رفع العقوبات الأمريكية فتح الباب أمام اهتمام شركات من قطر والصين وتركيا وحتى الولايات المتحدة. لكن التحدي الأكبر يبقى داخلياً: كيف يمكن للحكومة المؤقتة بقيادة أحمد الشرع أن تبسط سيطرتها على الأرض وتحمي استثمارات الطاقة من فوضى النهب؟
في النهاية، يبقى المشروع القطري رمزاً للطموح السوري الجديد، لكنه رهان محفوف بالمخاطر. إعادة إعمار سوريا لن تكون مجرد مسألة تمويل أو تقنية، بل اختبار لقدرة الحكومة على فرض الأمن واستعادة الثقة. إنها معركة لإحياء الأمل في بلد مزّقته الحرب، حيث يتوقف نجاح استثمارات الطاقة على قدرة الدولة على حماية كابلاتها من النهب، تماما كما تتوقف آمال السوريين على استعادة ضوء الكهرباء في بيوتهم.