"سوريا بين عقيدة البعث وممارسة الطائفية: رؤية في الانحطاط الوطني" - It's Over 9000!

"سوريا بين عقيدة البعث وممارسة الطائفية: رؤية في الانحطاط الوطني"

تركي المصطفى

في مسار التاريخ السوري الحديث، قلّما تجد لحظة لم تطبع بطابع الصراع على الهوية، حيث تقاطعت الوطنية السورية مع إكراهات السياسة والطائفية، فأنتجت واقعا معقدا أسهم فيه ثلاثة أسماء بارزة: صلاح جديد، وحافظ الأسد، وبشار الأسد. كل منهم، بطريقته، أعاد صياغة المشهد السوري، ليس فقط عبر سياسات الحكم، بل عبر تعميق الانقسامات الطائفية التي أضعفت النسيج الوطني، وجعلت سوريا رهينة توازنات هشة.

في ستينيات القرن العشرين، برز صلاح جديد كأحد أعمدة الانقلاب البعثي عام 1963، ثم كمهندس التحول الراديكالي للحزب بعد انقلاب شباط 1966. فجديد، العلوي الأصل، لم يكن مجرد ضابط طموح، بل رمزا لصعود طبقة عسكرية وسياسية من الأقليات، وجدت في البعث منصة لتجاوز تهميشها التاريخي. لكن هذا الصعود لم يكن محايدا. فسياسات جديد، التي ركزت على التأميم والإصلاح الزراعي، أثارت قلق النخب السنية التقليدية في دمشق وحلب، مما زاد من التوترات الطائفية، ولم يكن جديد يسعى صراحة إلى تعزيز العلويين على حساب غيرهم، لكنه، بحكم تركيبته الاجتماعية ونهجه الثوري، أوجد ديناميكية استقطبت العلويين إلى مراكز القوى في الجيش والحزب، فيما شعرت فئات أخرى بالإقصاء، وهكذا، بدأت الوطنية السورية، التي كان يُفترض أن تكون جامعة، تتآكل تحت وطأة الانتماءات الفرعية، حيث صارت الدولة، في عيون البعض، أداة لجماعة بعينها.

ثم جاء حافظ الأسد، الذي تولى السلطة عام 1970، ليضع بصمته كمهندس نظام طائفي بامتياز، لكنه نظام مغلف بدهاء سياسي نادر. فالأسد، العلوي الآخر، أدرك أن بقاءه في الحكم يتطلب توازنا دقيقا بين تعزيز قاعدته الطائفية واستيعاب فئات أخرى، لقد بنى الأسد دولة القمع باسم الوحدة العربية، لكنها في جوهرها كانت دولة تحابي العلويين في المناصب العسكرية والأمنية الحساسة، بينما تمنح السنة، وبدرجة أقل الأقليات الأخرى، هامشا اقتصاديا وسياسيا محدودا، وهذا التوازن لم يكن عدلا، بل كان ترتيبا براغماتيا لضمان الاستقرار، والأسد لم يكتف بتكريس الطائفية كأداة حكم، بل جعلها عقيدة خفية، تتستر خلف شعارات البعث عن العروبة والاشتراكية. ومع ذلك، كانت هذه العقيدة هشة، إذ تفجرت في مواجهات الثمانينيات مع الإخوان المسلمين، حيث اتخذ القمع طابعا طائفيا واضحا، لا سيما في مجزرة حماة عام 1982. هنا، لم يعد ممكنا إخفاء أن الوطنية السورية قد أفرغت من محتواها، لتصبح مجرد واجهة لنظام يستمد قوته من ولاءات طائفية ضيقة.

أما  بشار الأسد، الذي ورث الحكم عام 2000، فكان الثمرة الأكثر هشاشة لهذا المسار. على عكس والده، لم يمتلك بشّار الدهاء السياسي ولا الكاريزما القادرة على الحفاظ على التوازنات الطائفية الهشة. وفي عهده، تفاقمت الطائفية إلى مستويات غير مسبوقة، ليس فقط بسبب سياساته، بل بسبب ضعفه الشخصي وسوء إدارته. عندما اندلعت الاحتجاجات عام 2011، لجأ بشّار إلى استراتيجية تعبئة طائفية صريحة، موظفا خطابا يصور العلويين وأقليات أخرى كضحايا محتملين لـ "إرهاب سني". وهذا الخطاب، الذي دعمته ميليشيات طائفية وتدخلات إيرانية، عمّق الانقسامات إلى حد جعل سوريا ساحة لصراعات طائفية وإقليمية، نتيجة ذلك كانت كارثية: تدمير البنية الاجتماعية، نزوح ملايين السوريين، وتحول الدولة إلى أداة للقمع الوحشي والتمييز الطائفي. وفي هذه الهزيمة الكبرى لما يسمى بـ "ثقافة النظام" واسعة النطاق، تفكك النسيج الاجتماعي السوري، وظهر مجتمع منقسم ومتشرذم، والوطنية السورية، التي كانت بالكاد موجودة، غدت شبحا، حيث حلّت محلها انتماءات طائفية متصارعة، تغذيها أيديولوجيا النظام الفارغة من أي مضمون وطني.

في هذا السياق، يبرز السؤال: هل كان الانقسام الطائفي قدرا محتوما؟ أم أنه نتاج اختيارات سياسية متعمدة؟ الإجابة، تكمن في التفاعل بين التاريخ والهندسة السياسية. فصلاح جديد زرع بذور الطائفية عبر صعود النخب العلوية، وحافظ الأسد حوّلها إلى نظام حكم، وبشّار الأسد، بضعفه ودمويته، جعلها قنبلة انفجرت في وجه سوريا. واليوم، إذا أرادت سوريا استعادة وطنيتها، فإن الطريق لا يكمن في زعيم جديد أو عقيدة جديدة، بل في إعادة بناء دولة تحترم التنوع وتتجاوز الطائفية، لتكون وطنا لكل السوريين، لا أداة لجماعة أو فئة.


مقالات ذات صلة

بحث سوري يبرز في المؤتمر الدولي للأكاديميين الشباب بجامعة ماردين آرتقلو

سوريا الجديدة: بين مطرقة الاحتلال وسندان الاستقرار

تحت غطاء نسائي وبوثائق مزورة.. إيران تعيد تشكيل نفوذها شرقي سوريا عبر المخدرات

واشنطن تعمل على وضع سياسة جديدة بشأن سوريا

الرئيس الشرع يعتزم زيارة الإمارات قريبا

"مونت كارلو": الرئيس الشرع رفض طلبا جزائريا بالإفراج عن لواء و500 جندي جزائري أسروا في حلب

//