في قلب الشرق الأوسط، حيث تتشابك خيوط التاريخ والسياسة، تقف سوريا اليوم على مفترق طرق. بعد عقود من الصراع الدامي، وبعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، بدأت سوريا مرحلة انتقالية، تسعى لإعادة بناء وطن مزقته الحروب. لكن هذه اللحظة التاريخية، التي كان يمكن أن تكون بداية لاستقرار طال انتظاره، تتعرض لتهديد خطير من عدوان إسرائيلي غاشم، يهدف إلى تقويض إرادة شعب يتوق إلى الحرية والسيادة.
لم تكد سوريا تستنشق عبير الحرية، حتى واجهت وابلًا من الغارات الجوية الإسرائيلية، التي تجاوز عددها 600 غارة في الأيام العشرة التي تلت سقوط الأسد. لم تكتفِ إسرائيل بقصف القواعد العسكرية، بل عبرت قواتها الحدود، محتلة المنطقة العازلة التي أقرتها اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، لتدمر بذلك عقودًا من الالتزامات الدولية. ولم تتوقف عند هذا الحد، بل توغلت قواتها 12 كيلومترًا داخل الأراضي السورية، ناشرة حقول الألغام، وممهدة طرقًا جديدة، ومُجبرة المدنيين على النزوح من ديارهم. هذا العدوان، الذي لا يجد مبررًا سوى شهية التوسع وسياسة فرض الأمر الواقع، يضع الحكومة السورية المؤقتة بقيادة أحمد الشرع أمام اختبار وجودي.
في 25 مارس 2025، تجلى هذا العدوان في قرية كويا، حيث تصدى عشرة مسلحين محليين لمحاولة توغل إسرائيلي. ردًا على إطلاق نار تحذيري من الأهالي، أطلقت دبابات جيش الدفاع الإسرائيلي قذائفها، وشنت غارة جوية أودت بحياة ستة مدنيين على الأقل. هذه الحادثة ليست استثناء، بل جزء من نمط تصعيدي يعكس نوايا إسرائيل لفرض هيمنتها على سوريا في لحظة ضعفها.
الحكومة المؤقتة، التي تسعى بكل جهد لإعادة توحيد البلاد وإرساء الاستقرار، أظهرت براجماتية نادرة. فقد اعترضت 18 شحنة أسلحة كانت متجهة إلى حزب الله، وفككت ثمانية مواقع صاروخية مرتبطة سابقًا بإيران، مؤكدة التزامها بسياسة عدم التصعيد مع جيرانها. كما أقامت حوارًا مثمرًا مع روسيا، وتبنت نهجًا دبلوماسيًا يهدف إلى إعادة دمج سوريا في المجتمع الدولي. لكن هذه الجهود تصطدم بجدار العدوان الإسرائيلي، الذي يبدو مصممًا على إجهاض أي محاولة للاستقرار.
أما السياسة الإسرائيلية الجديدة، التي أعلنها بنيامين نتنياهو وإسرائيل كاتس، فتطالب بنزع السلاح الكامل من جنوب سوريا، وتتدخل تحت ذريعة "حماية الدروز". لكن هذه الذريعة تتكشف عن نوايا أخرى، حيث تدعم إسرائيل تشكيل ميليشيا درزية جديدة في السويداء، تُعرف باسم "المجلس العسكري للسويداء"، تضم جنرالات سابقين في نظام الأسد، وتحافظ على علاقات مشبوهة مع إسرائيل. هذه الميليشيا، التي رفع أفرادها العلم الإسرائيلي في السويداء، لاقت رفضًا شعبيًا فوريًا، حيث أحرق الأهالي العلم في إشارة واضحة إلى رفضهم لأي تدخل خارجي.
في هذا السياق، يبرز السؤال: لماذا تُصر إسرائيل على زعزعة استقرار سوريا الجديدة؟ إن سقوط الأسد شكل هزيمة استراتيجية لإيران، وأنهى سيطرتها العسكرية على سوريا. لم تُسجل أي هجمات ضد إسرائيل من الأراضي السورية منذ ديسمبر 2024، فما الذي يدفع إسرائيل لمواصلة عدوانها؟ الإجابة قد تكمن في رغبة إسرائيل في استغلال الفراغ السياسي لفرض واقع جديد، يضمن هيمنتها الإقليمية، حتى لو كان ذلك على حساب استقرار المنطقة بأسرها.
إن الحكومة السورية المؤقتة، رغم كل التحديات، تُظهر إرادة حقيقية لتحقيق الاستقرار. لقد أجّلت قبول مقترح تركيا العسكري لنشر قوات جوية في سوريا، مدركة أن مثل هذه الخطوة قد تُشعل أزمة إقليمية. لكن استمرار العدوان الإسرائيلي يجعل هذه البراغماتية مستحيلة، وقد يدفع دمشق إلى خيارات دفاعية لا ترغب بها.
في لحظة كهذه، يقع على عاتق المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة في عهد إدارة ترامب، مسؤولية تاريخية. إن استمرار العدوان الإسرائيلي قد يحول سوريا الجديدة من شريك محتمل في الاستقرار الإقليمي إلى ساحة صراع جديدة. وإذا كانت الولايات المتحدة تأمل في رؤية سوريا تنضم يومًا إلى اتفاقيات إبراهيم، فإن ذلك لن يتحقق إلا بوقف الاحتلال الإسرائيلي واستعادة السيادة السورية.
سوريا اليوم ليست مجرد دولة تتعافى من جروحها، بل هي رمز لإرادة شعب يرفض الخضوع. إن دعم الحكومة المؤقتة، ووقف العدوان الإسرائيلي، هما السبيل الوحيد لتحويل هذه اللحظة التاريخية إلى بداية لسلام دائم في الشرق الأوسط.
تركي المصطفى