بحث

بين "فرقة الغرباء" و"الدولة": المعركة الخفية على هوية سوريا

تركي المصطفى 

تبدأ القصة من حارم في محافظة إدلب، حيث تدور مواجهة دامية بين جهاز الأمن العام التابع للحكومة الانتقالية السورية وجماعة "فرقة الغرباء" من المقاتلين الأجانب. وهذه الحادثة ليست منعزلة، بل هي حلقة في سلسلة ممتدة من الصراع على هوية سوريا ومستقبلها. إنها لحظة تكشف عن تحول جوهري في الاستراتيجيات والتحالفات، حيث تتحول أدوات الأمس إلى أهداف اليوم، وتتشابك مصالح القوى الدولية والإقليمية في خلفية المشهد.

إن ما يحدث في حارم وإدلب ليس سوى القشرة الظاهرة لتحول استراتيجي أعمق، يشبه في تعقيده "الخطة ستراغل"، والتي استهدفت "بعثرة الموقف في المشرق العربي". فسوريا، هذا القلب النابض للمشرق العربي، لا تزال المحطة التي لا يمكن تجاوزها في أي معادلة إقليمية.

لقد شهدت سوريا في العقد الماضي تحولا دراماتيكيا في تعامل مختلف الأطراف مع ملف المقاتلين الأجانب. فبعد أن كانت هذه الجماعات تمثل "قوة عسكرية" داعمة لقوى المعارضة سابقا، ها هي اليوم تواجه حملة تستهدفها من الحكومة الانتقالية ذاتها. هذا التحول ليس اعتباطيا، بل هو انعكاس لتغير موازين القوى الإقليمية والدولية، وتغير الأولويات الاستراتيجية.

فالحكومة الانتقالية السورية، التي أنهكتها سنوات الحرب، تسعى اليوم إلى "معالجة هادئة" لملف المقاتلين الأجانب، بعد أن "انحصر وجودهم ضمن مجموعات محلية لا تملك تأثيرا فاعلا". لكن هذه المعالجة تواجه تحديا جوهريا يتمثل في وجود جماعات مثل "فرقة الغرباء" التي تتبنى "أيديولوجيات سلفية جهادية صريحة" وتدعو إلى "العنف الطائفي"، مما يجعلها خارج حسابات التسوية السياسية الجارية.

شهد منعطف يونيو 2025 تحولا مهما في الموقف الأمريكي، حيث وافقت الولايات المتحدة على "خطة طرحتها القيادة السورية الجديدة للسماح لآلاف من المقاتلين الأجانب الذين كانوا في السابق ضمن المعارضة بالانضمام للجيش الوطني". هذه الموافقة لم تكن من فراغ، بل جاءت نتيجة إقناع الطرف السوري للجانب الأمريكي بأن "ضم مقاتلين أجانب إلى الجيش سيكون أقل خطورة على الأمن من التخلي عنهم".

هذا التحول الأمريكي يعكس فهما عميقا لتعقيدات الواقع السوري، فالمطالب الأميركية فيما يتعلق بملف المقاتلين الأجانب جرى تضخيمها، وأنه يمكن للحكومة السورية حسم المسألة دون أي صدامات عسكرية أو أيديولوجية مع أي فصيل. والولايات المتحدة، كما يرى مراقبون، لا تسعى فعليا لترحيل المقاتلين الأجانب، بل تعمل على "إعادة تشكيل السلفية الجهادية وضبطها ضمن إطار نظامي يخدم الاستقرار والاستثمار".

لا يمكن فهم الأحداث في حارم وإدلب بمعزل عن التحولات الإقليمية الأوسع. فسوريا، بحكم موقعها الجيوسياسي، تظل "عاصمة المشرق العربي"، والبؤرة التي يتصارع عليها كل من يريد أن يقول شيئا أو يفعل شيئا في العالم العربي. فالتدخلات الإقليمية في الشأن السوري، أسهمت في تعقيد المشهد وزادت من حدة التوتر.

إن انتشار المقاتلين الأوزبكيين في مجمع "فرقة الغرباء" لتقديم التعزيزات، يشير إلى طبيعة التحالفات العابرة للحدود التي تشكلت خلال سنوات الحرب، والتي أصبحت اليوم تشكل تحديا للأمن القومي السوري. فالسخط المتزايد بين "مجموعات المقاتلين الأجانب من آسيا الوسطى" بسبب اعتقال زملائهم أسباب منطقية من وجهة نظر الحكومة، قد يفتح الباب أمام مواجهات أوسع في المستقبل.

إن ما تشهده سوريا اليوم من تحول في التعامل مع ملف المقاتلين الأجانب، من حملات أمنية تستهدف جماعات مثل "فرقة الغرباء" إلى دمج جماعات أخرى في الجيش النظامي، ليس سوى انعكاس لتحول استراتيجي أعمق. إنه تحول من الحرب إلى منطق الدولة، ومن ثقافة الفصائل إلى ثقافة المؤسسات.

لكن الطريق أمام استكمال هذا التحول لا يزال طويلا وشائكا. فالحكومة الانتقالية توازن بين متطلبات المجتمع الدولي الرامية إلى تطهير سوريا من العناصر المسلحة غير النظامية، وواقع القوة التي تمثلها هذه الجماعات والتي قد تكون "الورقة الأخيرة والأهم التي تملكها سوريا اليوم لتفرض نفسها كلاعب، لا كأداة". وقد تم توقيع اتفاقية بين فرقة الغرباء والأمن العام، وتشمل بنود الاتفاق:

- وقف فوري لإطلاق النار وسحب الأسلحة الثقيلة إلى الثكنات.

- وقف الحملات الإعلامية العدائية.

- فتح المجمع للتفتيش من قبل السلطات.

- إحالة قضية عمر ديابي (عمر أومسن)، خاصة اتهام الخطف، إلى وزارة العدل للمراجعة.

إن مصير سوريا، هذا القلب النابض للمشرق العربي، سيظل رهنا بقدرتها على تجاوز تناقضات المرحلة الانتقالية، والانتقال من منطق الصراع إلى منطق الدولة، ومن ثقافة السلاح إلى ثقافة المؤسسات. وهذا لن يتحقق إلا بوعي عميق لتعقيدات اللحظة التاريخية، وبحكمة قادرة على تحويل التحديات إلى فرص، والأعداء إلى شركاء في بناء مستقبل أكثر استقرارا وأمنا لسوريا والمنطقة بأسرها.

مقالات متعلقة