تركي المصطفى
في الثامن من سبتمبر، لم تكن الغارات الإسرائيلية على محافظتي اللاذقية وحمص مجرد ضربات عسكرية تقليدية تُضاف إلى سجل طويل من التصعيد، بل كانت فصلا جديدا في حرب باردة إقليمية تتخذ من الأراضي السورية ساحة لتصفية الحسابات واختبار النفوذ. هذه الضربات، التي استهدفت على وجه التحديد منشآت يُعتقد أنها تضم أنظمة دفاع جوي تركية متطورة، لم تأتِ من فراغ، بل هي ذروة تصاعدية لصراع خفي ودبلوماسي عالي المستوى دار على مدى أشهر بين تل أبيب وأنقرة، حيث تحولت سوريا المدمرة إلى رقعة شطرنج كبرى، تُحرك عليها القوى الإقليمية قطعها وفقا لحسابات استراتيجية معقدة. إن ما حدث في تلك الليلة هو أكثر من مجرد انفجارات حدثت في حمص واللاذقية؛ كانت إعلانا صريحا عن فشل جميع الآليات الدبلوماسية الهشة التي أُقيمت سابقا لاحتواء هذا الصراع، وإيذانا بمرحلة جديدة أكثر خطورة، حيث تتداخل المصالح التركية المباشرة مع الاستراتيجية الإسرائيلية الثابتة في العدوان على أي تهديد محتمل قريب من حدودها.
في هذا التقرير، سنحاول تفكيك خيوط هذه اللحظة الحرجة، ليس فقط من خلال سرد الأحداث العسكرية المباشرة، بل من خلال الغوص في أعماق التحولات الجيوسياسية التي قادت إليها، سنتتبع مسار التقارب التركي-السوري المفاجئ، الذي تحول من عداء تاريخي إلى تحالف دفاعي سريع، ونحلل دوافعه وأبعاده. سنفحص حقيقة الوجود العسكري التركي المتنامي في سوريا تحت غطاء "الاتفاقيات الأمنية"، وندرس الرد الإسرائيلي الذي لم يعد محصورا في مراكز النفوذ الإيراني التقليدية، بل امتد ليطال حليفا في حلف شمال الأطلسي. كل هذا في مشهد يعيد إلى الأذهان ذروة الحرب الباردة، حيث تتحول الأراضي ذات السيادة المحدودة إلى ساحة لاختبار الأسلحة وتجربة القوى.
لم تكن الضربات الإسرائيلية التي تنفذها "قوات الاحتلال الإسرائيلية" عشوائية أو رد فعل آني، بل كانت عملية دقيقة معززة بمعلومات استخباراتية غاية في الحساسية والتوقيت. تشير الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية والمتاحة تجاريا إلى دقة الإصابة في أهداف محددة داخل كتيبة الدفاع الجوي التابعة للفوج التاسع عشر في قرية شنشار. لم تكن تلك الأهداف مباني عسكرية عادية، بل كانت، وفقا للمصادر الأمنية الإسرائيلية التي تحدثت لوسائل إعلام سعودية، مستودعات تخزن فيها أنظمة الدفاع الجوي التركية من طراز "حصار"، والتي نُقلت حديثا إلى سوريا.
هذا العدوان الإسرائيلي يحمل أكثر من رسالة، الرسالة الأولى موجهة إلى تركيا نفسها، مفادها أن إسرائيل تمتلك القدرة على مراقبة كل تحركاتها العسكرية داخل سوريا، وأن خطوط التمويل ونقل المعدات ليست سرا بالنسبة لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. والرسالة الثانية موجهة إلى الحكومة السورية، وتذكيرها بأن التعاون مع طرف إقليمي آخر لن يمنحها الحصانة أو يغير من قواعد الاشتباك الإسرائيلية التي تعتبر وجود أي تهديد وجودي، أو شبه وجودي، على حدودها أمرا غير مقبول كما تدعي. أما الرسالة الثالثة، وهي الأخطر، فموجهة إلى الدوائر الدولية والإقليمية، وتقول بكل وضوح: إن إسرائيل لن تتردد في ضرب أي هدف، بغض النظر عن هوية مالكه أو جنسيته، إذا ما اعتبرته تهديدا لأمنها. وضرب معدات تابعة لحلف الناتو هو تصعيد نوعي يحمل في طياته مجازفة محسوبة، ويعكس ثقة إسرائيلية عالية بقدراتها العسكرية ودعمها السياسي الدولي اللامتناهي.
ولفهم ما حدث في سبتمبر، يجب العودة إلى أبريل من العام نفسه، عندما أوردت تقارير إخبارية، منها تقرير لصحيفة "ميدل إيست آي"، أن تركيا تخطط لنشر أنظمة صواريخ "حصار" الأرض-جو لحماية منشآتها داخل سوريا. هذه الخطة لم تكن منعزلة، بل كانت جزءا من مسار دبلوماسي أوسع بدأ يتشكل بعد التمرد الطائفي الذي شهدته سوريا في يوليو وهو ما جعل دمشق تقترب من أنقرة، وتطلب بشكل رسمي معدات عسكرية تركية، وذلك بعد أن طالت الضربات الإسرائيلية العاصمة السورية دمشق ومحافظة السويداء.
هذا التحول من عداء دام سنوات، كان قائما على دعم تركيا للمعارضة السورية، إلى توقيع اتفاقية دفاع مشترك في 13 أغسطس 2025، هو أحد أكثر التحولات إثارة للدهشة في المشهد السياسي الإقليمي. الاتفاقية، التي تنص صراحة على حق سوريا في التشاور مع تركيا بشأن القضايا العسكرية، وقيام أنقرة بمساعدة دمشق في شراء المعدات العسكرية وتدريب قواتها، تمثل انتصارا دبلوماسيا تركيا ونكسة للنفوذ الإيراني التقليدي في سوريا. لكن هذا التقارب لا يخلو من تكلفة. فتركيا، من خلال هذا التدخل المباشر، تضع نفسها في مواجهة مباشرة مع الاستراتيجية الإسرائيلية. لقد قبلت بدور الحامي العسكري للحكومة السورية، وهو دور كان محصورا سابقا بإيران وروسيا. هذا التحول ليس مجرد مناورة تكتيكية، بل هو إعادة رسم جيوسياسية لمناطق النفوذ، حيث تبحث أنقرة عن دور إقليمي رائد، حتى لو كان ذلك على حافة الاشتباك مع إسرائيل.
في خضم هذا التصعيد، تبرز "آلية فض النزاع" التي أنشأتها إسرائيل وتركيا في مايو 2025 كواحدة من أكثر المفارقات إثارة. فوجود مثل هذه الآلية يفترض فيه أن يكون قناة اتصال لمنع التصادم المباشر، لكن الضربات الإسرائيلية للمعدات التركية تشير إلى أن هذه القناة إما أنها عاجزة، أو أنها تم تجاوزها عمدا من قبل طرف يريد إرسال رسالة قوية لا تصلح معها الدبلوماسية.
رفض إسرائيل السابق للمقترحات التركية بنشر أنظمة دفاع جوي في سوريا، ثم ضربها لتلك الأنظمة لاحقا، يطرح سؤالا جوهريا: ما هي قيمة الآليات الدبلوماسية عندما تكون الاستراتيجيات الأمنية للدول متعارضة تعارضا جذريا؟ يبدو أن هذه الآلية كانت محاولة لكسب الوقت أو إدارة التصعيد، وليس منعه. لقد فشلت في تحقيق غايتها الأساسية، وتحولت إلى مجرد غطاء شكلي بينما تستمر الحرب بالوكالة على الأرض السورية بكل ضراوة. وفي النهاية، تؤكد الأحداث أن سوريا لم تعد مجرد ساحة لحربها الداخلية التي أوشكت على نهايتها، بل هي مرآة عاكسة للصراعات الإقليمية الأوسع. فالضربات الإسرائيلية الأخيرة ليست نهاية المطاف، بل هي بداية لمرحلة جديدة أكثر تعقيدا وخطورة. لقد دخلت تركيا رسميا كطرف مباشر في المعادلة الأمنية الإسرائيلية-السورية، وهذا دخول لن تكون تبعاته محصورة في الأراضي السورية.
الأسابيع المقبلة ستكشف ما إذا كان هذا التصعيد سيدفع الأطراف إلى مزيد من التصادم، أم سيعيدهم إلى طاولة المفاوضات تحت ضغوط دولية. شيء واحد مؤكد: لعبة الأمم على الأرض السورية تدخل طورا لم تعد فيه أي تحالفات مقدسة، ولا أي خطوط حمراء يصعب عبورها. لقد أصبحت سوريا اختبارا حقيقيا لإرادة القوى الإقليمية والدولية، وميدانا قد يحدد شكل الشرق الأوسط للعقود القادمة.