تركي المصطفى
بين أنقاض المنشآت النووية المدمرة في نطنز وفوردو، وبين صرخات الشارع الإيراني الغاضب من انقطاع الكهرباء وانهيار العملة، تُنسج خيوط لعبة إيرانية معقدة.
ليست هذه المرة الأولى التي تخرج فيها طهران من رحم المواجهة العسكرية حاملة غصن مفاوضات، لكنها المرة الأولى التي يُعلن فيها النظام صراحة أن المفاوضات النووية مع أمريكا "ضرورة للبقاء"، كما كشفت مصادر إيرانية مطلعة لرويترز.
هنا، في هذا التناقض الصارخ بين خطاب المقاومة وواقع الانهيار، تكشف إيران عن جوهر سياستها: "فن المخاتلة المنظم"، حيث تصبح الدبلوماسية سلاحا لشراء الوقت، والخطاب الثوري غطاء للتراجع العملي، والصراعات الداخلية مسرحا لتصفية الحسابات تحت عباءة "الوحدة الوطنية".
الوجه المزدوج: بين خطاب الصمود وحسابات الانهيار
لا يمكن فهم منعطف طهران الحالي دون الغوص في صدمة حرب الأيام الاثني عشر (13-24 يونيو 2025). حيث أن الضربات الأمريكية-الإسرائيلية لم تكن مجرد هجمات عسكرية؛ لقد كانت زلزالا هز أركان العقيدة العسكرية الإيرانية القائمة على "الردع". لقد كشفت الحرب عن "اختراق جوي إسرائيلي للدفاعات الإيرانية"، وتدمير مواقع نووية محصنة كان النظام يعتبرها بمنعة الجبال. والأهم من ذلك، أنها نقلت التهديد من مستوى المواجهة بالوكلاء إلى مستوى "الخطر الوجودي" المباشر. وفي هذا السياق، يصبح تحول خامنئي إلى التفاوض – رغم معارضة الحرس الثوري العلنية – اعترافا ضمنيا بأن استمرار المواجهة يعني "المغامرة بانهيار داخلي أو هزيمة ساحقة". لكن الإيرانيين، كما يعلم خصومهم جيدا، لا يقدمون التنازلات دون تغليفها بانتصار رمزي. هكذا يصرح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان: "التفاوض لا يعني الاستسلام"، بينما يرفض نائب وزير الخارجية مجيد تخت روانجي وقف التخصيب جملة وتفصيلا، واصفا المطالب الأمريكية بـ "المزحة"، إنها المخاتلة في أوضح صورها: القبول بالحد من مستويات التخصيب (ربما 20%) كتنازل تكتيكي، مع التشبث بحق "سيادي" في التخصيب يُبقي الجوهر النووي قابلا للإحياء.
مسرحية التناقضات: الصراع الداخلي كأداة تفاوض
لا تكتمل لعبة المخاتلة الإيرانية دون إدارة الصراع الداخلي ببرودة محسوبة، فبينما يمنح خامنئي الضوء الأخضر للتفاوض سرا عبر قنوات النرويج، يصدر البرلمان الإيراني – بسطوة الأصوليين – بيانا يشترط ضمانات بعدم التعرض لهجمات مستقبلية كشرط مسبق لأي مفاوضات. وهذا "التباين الظاهر" في المواقف الرسمية ليس فوضى إدارية، بل هو إستراتيجية متعمدة تتيح لطهران مساحة للمناورة: فالمتشددون يرفعون سقف المطالب لابتزاز تنازلات غربية، بينما المعتدلون يلوحون بخطر هؤلاء "المتشددين" لتبرير تشددهم هم أنفسهم! حتى تصريحات الرئيس السابق حسن روحاني – الذي ظهر فجأة كـ "منقذ للنظام" – تخدم اللعبة ذاتها، ودعوته للإصلاح الداخلي وتخفيف التوتر مع الغرب، واجتماعاته السرية مع مراجع قم، تُقدَّم كخيار "عقلاني" في مواجهة تشدد الحرس، لكنها في الواقع تخلق ورقة ضغط جديدة: فإما أن يقدم الغرب تنازلات لتعزيز "تيار الاعتدال"، أو سيتحول المتشددون إلى بديل مرعب.
ورقة "سناب باك": التلويح بالانهزام لتفادي الكارثة.
أخطر أدوات المخاتلة الإيرانية اليوم هي استخدام التهديدات الخارجية كورقة تفاوض، وإنذار الدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) بتفعيل آلية "سناب باك" في 31 أغسطس– التي تعيد عقوبات الأمم المتحدة الكاسحة – لم يقع في الفراغ. فالمسؤول الإيراني الذي اعترف لصحيفة التلغراف بأن طهران "لن تتحمل" عودة هذه العقوبات، كان يقدم للغرب خدمة غير مجانية: فهو من ناحية يكشف نقطة ضعف النظام، لكنه من ناحية أخرى يقدم للدول الأوروبية ورقة رابحة في لعبة الابتزاز المتبادل، حتى قبول إيران بتمديد مهلة "سناب باك" – التي تنتهي أصلا في أكتوبر 2025 – يصبح مناورة لتحويل التهديد الأوروبي إلى أداة ضغط على أمريكا نفسها. وفي هذا السياق، يصبح تعيين علي لاريجاني – المؤيد التاريخي للتفاوض – أمينا للمجلس الأعلى للأمن القومي في 5 أغسطس، إشارة مدروسة: فالقادم الجديد ليس "حمامة سلام"، بل هو مهندس مخاتلة محترف، صقل مهاراته في التفاوض على اتفاق 2015، ويعرف كيف يحول التنازلات إلى مكاسب مؤجلة.
الخاتمة: المخاتلة فوق بركان
اللعبة الإيرانية اليوم أشبه بالسير على حبل مشدود فوق بركان، فالضغوط الداخلية لم تعد خفية: انقطاع التيار الكهربائي اليومي، أزمة مياه تهدد بكارثة إنسانية، شعارات "الموت لفلسطين" تتردد في احتجاجات إيرانية. وفي المنطقة، انهيار حليف إيران الاستراتيجي نظام الأسد في سوريا (ديسمبر 2024) وتآكل قدرات حزب الله العسكرية بعد الضربات الإسرائيلية، أفقدا طهران أهم أدوات نفوذها. ورغم ذلك، ترفض أن تظهر بمظهر المنهزم.
هل ستنجح المخاتلة الإيرانية هذه المرة؟ التاريخ يشير إلى أن طهران أتقنت فن تحويل الهزائم العسكرية إلى انتصارات دبلوماسية هشة. لكن مشهد اليوم مختلف: فالعقوبات المرتقبة أعمق، والشارع أكثر غضبا، والغرب – خاصة مع احتمالية وجود ترامب في البيت الأبيض – أقل رغبة في الصفقات. حتى "الضرورة للبقاء" التي يرددها خامنئي قد لا تكفي لإنقاذ نظام يخاطر بأن تدفعه مخاتلته إلى الهاوية. وفي النهاية، خامنئي لا يبدل عقيدته، لكنه يبدل أدواته. والسؤال الذي ينتظر إجابة: متى ستنفد الأدوات، ويبقى الجوهر عاريا أمام شعب لم يعد يصدق الأساطير؟