تركي المصطفى
لم تكن أضواء قاعة المؤتمر في الحسكة يوم الثامن من آب/أغسطس 2025 مجرد أضواء عابرة، بل شعلة أحرقت الورقة الأخيرة من "اتفاق 10 آذار" الهشّ. هناك، تحت سقف يرفع شعارات "اللامركزية" و"التعددية"، اجتمع 400 شخصية بين شخصيات دينية وسياسية ومحلية، يدفعهم خوف واحد ـ كما يدعون: أن تكون سوريا الجديدة نسخة أكثر قسوة من سوريا القديمة. وفي دمشق، كان الرئيس أحمد الشرع يقرأ برقية المؤتمر بعينين تعرفان أن "تحالف الأقليات" الذي نبت فجأة ليس سوى طلقة البداية في معركة وجود. فالمؤتمر – بكل ما حمل من تناقضات صارخة – كان الإعلان الرسمي الأول عن تحوّل الصراع السوري من حرب على الإرهاب إلى حرب على هوية الدولة نفسها.
حين تنام التناقضات تحت رماد الاتفاقات
لطالما كانت شراكة آذار 2025 بين حكومة الشرع و"قسد" أشبه بزواج كاثوليكي بين خصمين: ضرورة سياسية تفرضها حسابات الحرب، لكنها تنكرت للثقة منذ اللحظة الأولى. فالحكومة الانتقالية في دمشق رأت في "قسد" ميليشيا يجب حلّها قبل دمجها، تماما كما فعلت مع "هيئة تحرير الشام" وفصائل "الجيش الوطني". بينما رأت "قسد" في دمشق امتدادا للنظام البائد الذي لم يتخلّ عن حلم الهيمنة المركزية، لكن الخيط الذي لم ينقطع كان الخوف أن تكون "قسد" الوجبة التالية في مائدة التصفيات.
هذا الخوف ربما هو ما دفع مظلوم عبدي إلى استدعاء أوراق لم يجرؤ على لعبها من قبل: حشد الأقليات، فالدروز في السويداء بقيادة حكمت الهجري – الذين أعلنوا إدارة ذاتية مؤقتة قبل يومين فقط من المؤتمر بدعم من إسرائيل– والعلويون المنشقون بقيادة غزال غزال المسنود إيرانيا، لم يكونوا ضيوفا عاديين. لقد جاؤوا برسالة مفادها أن "سوريا اللامركزية" لم تعد مشروعا كرديا وحيدا، بل مظلة للأقليات، وهنا بالضبط تكمن القنبلة: فما قدّمه المؤتمر ليس "إصلاحا سياسيا" بل "عقدا اجتماعيا جديدا يقوم على أنقاض فكرة الوطن الموحّد.
بين شعارات المؤتمر وجراح الأرض
لكنّ مفارقة الحسكة تكمن في أنها أرادت أن تبيع الوهم مغلفا بالحرير، فكيف لرجال دين مثل مرشد الخزنوي – مفتي الأكراد الذي افتخر بأنه "ليس مفتيا للعرب" ووصف تحدثه بالعربية "كنقطة سوداء في سيرته" – أن يرفعوا شعارات علمانية؟ وكيف لقوى تتهمها دمشق بسرقة النفط منذ عشر سنوات أن تدعو للمحافظة على ثروات الوطن؟ وأي سيادة يتحدثون عنها وهم يرفعون في السويداء – كما شاهد العالم – أعلام إسرائيل إلى جانب أعلام الطائفة؟
إنها لعبة الخطابات المزدوجة التي أتقنها الجميع: دمشق تتحدث عن "الوحدة الوطنية" بينما تهمّش كل صوت معارض، و"قسد" تتحدث عن "الديمقراطية" بينما تجرّد المدنيين في مناطق سيطرتها من أبسط حقوقهم. لكن المؤتمر كشف أن الخطر الأعمق هو تحويل الصراع إلى معادلة إثنية صرفة، فوصف التجمع بأنه "تحالف أقليات" – كما يفعل كثيرون– حقيقة استراتيجية هدفها تقطيع الجسد السوري إلى أشلاء، ولكن المؤتمر كان سياسيا في جوهره، ويخدم رواية التقسيم التي يروج لها الأعداء.
من البيان السياسي إلى البندقية المشتركة
لم يكن بيان الحسكة مجرد حبر على ورق. فالدعوة إلى "تشكيل نواة جيش وطني جديد" – كما ورد في نص البيان – لم تكن عفوية. إنها الإشارة الأكثر وضوحا للانتقال من التحالف السياسي إلى التنسيق العسكري، فالهجري لم يعلن حكما ذاتيا في السويداء ليجلس في مكتبه، بل ليحوّل ميليشياته من جماعات محلية إلى قوة مسلحة منظمة، وغزال غزال لم يقطع علاقته بدمشق ليصبح ناشطا سياسيا، بل ليحافظ على شبكة نفوذه العسكري في الساحل بدعم إيراني.
هذا التحول يغيّر قواعد اللعبة كلها. فالحكومة لم تعد تواجه "قسد" فقط، بل تحالفا ثلاثي الأبعاد:
- قوة كردية، تملك خبرة قتالية ودعما أمريكيا.
- قوة درزية، تملك حصانة طائفية ودعما إسرائيليا.
- قوة علوية منشقة، تعرف أسرار الجيش السوري.
والأخطر أن هذا الثلاثي لم يعد يخفي هاجسه الأكبر: أن دمشق قد تتحول يوما إلى "حكم الأكثرية السنية" الذي يبتلعهم جميعا. وهذا ما يفسر لماذا تحولت خطاباتهم من "المطالبة بحقوق" إلى "التهيؤ لمعركة".
حين يصبح العدو داخليا
لم تخطئ الحكومة عندما وصفت المؤتمر بأنه "خرق لاتفاق 10 آذار". لكن خطيئتها الكبرى كانت ظنّها أن اتفاقا هشا يمكن أن يغطي جرحا غائرا. فبيانها الرسمي الذي دان "استضافة شخصيات انفصالية" كان صادقا في توصيفه، لكنه أغفل سؤالاً محرجاً: لماذا وجد هؤلاء المنشقون في مؤتمر الحسكة ملاذا؟ وكيف يعملون على تحويل المظلوميات القديمة إلى براكين جديدة.، وحين يرى الدرزي أن زعيمه الروحي حكمت الهجري – الذي ظلّ رمزاً للوسطية – يلجأ إلى إعلان الحكم الذاتي، فعليه أن يتساءل: أي يأس دفعه إلى هذه الخطوة؟
ولا يمكن فصل مؤتمر الحسكة عن خريطة المصالح الإقليمية المتشابكة:
- إسرائيل التي وجدت في الدروز حليفا طبيعيا بعد أن أدارت ظهرها للأكراد، وهي اليوم تقدم لهم غطاء أمنيا مقابل إبقاء جبهة السويداء مشتعلة في ظهر دمشق.
- الولايات المتحدة التي تريد تحويل "قسد" إلى ورقة ضغط دائمة لإفشال أي تسوية تخرج عن رؤيتها.
- إيران التي تدفع بقطاعات من العلويين المنشقين لضرب استقرار الساحل السوري.
لكن اللعبة الكبرى هي أن جميع هؤلاء يقدمون أنفسهم كحماة للأقليات، بينما يدفعون سوريا إلى حرب هويات لن ينجو منها أحد.
السيناريوهات: بين انهيار الشراكة وبركان التقسيم
في ظل هذا المشهد المعقد، يبقى مصير سوريا معلقا بين سيناريوهين:
الأول: استمرار الشراكة الهشة
حيث تظل دمشق و"قسد" في زواج المصالح رغم تناقضاتهما، فالحكومة لا تستطيع مواجهة التهديدات الخارجية دون وحدة السوريين، و"قسد" لا تستطيع الصمود دون غطاء دمشق السياسي، لكن هذا السيناريو يضمن فقط استمرار الحرب بأشكال أخرى، ويؤجل الانفجار الكبير إلى حين يجد أحد الطرفين حليفا خارجيا قويا.
الثاني: الذهاب إلى حرب الوجود، وهو السيناريو الذي يلوح بقوة بعد مؤتمر الحسكة. فتشكيل "تحالف الأقليات المسلح" سيُجبر دمشق على ضربه قبل اكتمال بنيته. لكن هذه الحرب لن تكون معركة عادية، بل حربا على جبهات متعددة: جبهة كردية في الشمال، وجبهة درزية في الجنوب، وهي حرب ستحول سوريا إلى كانتونات متناحرة، خصوصا إذا دخلت القوى الإقليمية والدولية على خط الدعم المباشر.
الخاتمة
سوريا التي دخلت عامها الخامس عشر من الحرب تقف اليوم عند منعطف أخطر من كل ما مضى. فمؤتمر الحسكة لم يجمع الأقليات فقط، بل جمع أشباح الماضي كلها: أشباح اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت حدودا لم تحترم تنوع المنطقة، وأشباح حكم الأسد الذي حول الطوائف إلى جزر معزولة، وأشباح الثورة التي حلمت بدولة المواطنة فأنتجت أمراء حرب.
الخلاص لن يكون بعودة إلى المركزية البغيضة، ولا بتفكيك الدولة إلى كانتونات طائفية. الخلاص الحقيقي يبدأ عندما تدرك دمشق أن "السورنة" ليست شعارا بل منهجا: أن يُدار المجتمع بعلم لا بعواطف، وأن تُبنى الثقة بمحاسبة من سرقوا النفط وقتلوا الأبرياء – بغض النظر عن انتماءاتهم – وأن يُفتح الباب أمام أحزاب سياسية تجمع السوريين على أساس برامج لا هويات.
ففي النهاية، التاريخ لا يرحم من يظن أن حرب التقسيم يمكن أن تنتصر فيها جهة. سوريا التي عاشت حضارات سبعة آلاف عام ليست وعاء لصراع الهويات، بل مختبرا لإثبات أن التنوع يمكن أن يكون قوة – إذا أُدير بحكمة، والسؤال الذي ينتظر الإجابة: هل سيدرك اللاعبون هذه الحقيقة قبل أن يحترق الجميع؟