تركي المصطفى
لم تكن مصافحة أسعد الشيباني، وزير خارجية الحكومة السورية الجديدة، لسيرجي لافروف في قصور الكرملين حدثا دبلوماسيا عاديا، بل كانت صفعة على وجه الذاكرة الجمعية لشعب لم يجفّ دم أطفاله بعد في درعا وحلب والغوطة، صورة تختصر مأساة السياسة في الشرق: يد تمتدّ فوق جثث نصف مليون سوري، بينما تتدلى من سقف التاريخ قنابل النظام الروسي المتفجرة التي أبادت أحياء بكاملها. فكيف تُصافح من قتل 35% من شعبك؟ وكيف تتفاوض مع من دمّر 70% من بنيتك التحتية ليبيعك إعادة الإعمار؟
لافروف ليس دبلوماسيا بل سفّاحا ببدلة مطرّزة بالأكاذيب"، ومهندس التضليل الأكبر - لم يكتف بتبرير جرائم بوتين، بل نسج من دم السوريين سجادة يمشي عليها إلى المجد الإمبراطوري الزائف، وهو من روّج لأسطورة "محاربة الإرهاب" بينما كانت طائراته تحول أحياء في حلب ودمشق إلى مقبرة جماعية عام 2017، وهو من عرقل 17 قرارا أمميا لحماية المدنيين، بينما كانت أقل مجزرة مئات الشهداء من الأبرياء تنفّذ بغطاء طيران السوخوي، وهو من هدد الثائرين ضد الأسد بأنهم سيسحقون تحت أقدام الروس.
لكن تحت هذا الستار الدبلوماسي الكثيف، كانت حكومة الشيباني تقدم ثلاث حجج واهية: "المصلحة الوطنية"، و"إعادة النظر في العلاقات"، و"الواقعية السياسية" تجاه قوة مؤثرة، فهل يعقل أن تُبنى المصلحة على جماجم الضحايا؟ وهل يمكن "إعادة النظر" في علاقة مع من ساهم بـ 83% من مجازر الحرب بحسب الأمم المتحدة؟ إنها واقعية المذعورين الذين يبيعون الذاكرة لشراء سلطة هشّة.
هنا يطفو السؤال المحوري: أي خطأ استراتيجي هذا الذي يحوّل الجلوس فوق المذابح إلى "دبلوماسية"؟ أولاً، هو شرعنة للقاتل عبر منحه شرعية التقادم السياسي الزائف، وثانيا، انكسار للرواية الثورية حين تجلس حكومة "التغيير" مع من قصف أطفال "في المخابز والمدارس"، وثالثا، الوقوع في فخ التبعية الجديدة، فروسيا لا تمنح شراكات بل تبيع خدمات: نفوذا مقابل قواعد، و"إعمارا" مقابل ثروات، كأنما يعيدون تمثيل مسرحية "أحرق القرية أولا.. ثم اشترِ رمادها بثمن بخس".
وفي العمق، تكشف الزيارة عن العقدة الروسية التاريخية: حلم إمبراطورية بلا إمبراطورية. فسوريا ليست سوى رقعة شطرنج في لعبة استعادة أمجاد القياصرة، وهذا ما يفسر قسوة "الأرض المحروقة" في حلب (33 مستشفى مدمرا)، وازدواجية الحديث عن "الحل السياسي" بينما تُقصف مؤتمرات المصالحة، واحتقار لافروف للثوار الذين داسهم بحذائه الدبلوماسي. فهل كان على الشيباني أن يرفض؟ نعم. ليس انكفاء على الذات، بل انطلاقا من بدائل أخلاقية: المطالبة بمحكمة جرائم حرب كمدخل لأي حوار، وبناء تحالفات مع ضحايا الروس في أوكرانيا وغيرها، وتحويل كل لقاء روسي إلى منصة لتذكير العالم بمجازر روسيا في سوريا، فالدبلوماسية الحقيقية لا تنفصل عن العدالة.
وختاما، ليست مصافحة الشيباني للافروف خطوة "واقعية، بل اعترافا ضمنيا بأن دم السوريين أصبح عملة للمساومة، ذلك أن المصافحة فوق الجثث تقتل الذاكرة.، والضعف الحقيقي ليس في قلة الحلفاء، بل في انتهاب كرامة الشهداء. فهل تُغتال الضحية مرتين: مرة بالكاليبر الروسي.. ومرة بالمصافحة؟