بحث

خرائط إسرائيل الجديدة تُرسم بدخان طائرات الـ (f16) في سماء السويداء

تركي المصطفى

في قلب جبل العرب، حيث تلتقي الجغرافيا بالتاريخ، تحوّلت سماء السويداء إلى لوحة إسرائيلية ترسم بضربات الطائرات من نوع (f16) ملامح المرحلة القادمة، حيث أن بنيامين نتنياهو يلعب بورقة الدروز ببراعة المحترفين، مستندا إلى ثلاث ركائز: فتوى الشيخ الهجري، ومخرجات المفاوضات الخلفية مع دمشق، ورياح التطبيع التي تهبّ من جوار إقليمي متحوّل. والهدف واضح: تحويل سوريا إلى ساحة تصفية حسابات مفتوحة، واختبار قدرة النظام في دمشق - الذي ما زال يشكل حاجزا أمام المطامع التوسعية، من هنا فالضربات الجوية المكثفة ليست ردّا عابرا، بل جزء من استراتيجية مدروسة تزاوج بين القوة العسكرية والإغراء السياسي: "اضرب بقوة ثم اعرض الالتحاق باتفاقيات إبراهيم"، كما تختفي خلف دخان الطائرات في سماء السويداء أبعاد أكثر خطورة: سعي إسرائيل لتحويل المحافظة إلى منطقة منزوعة السلاح السوري الرسمي، تمهيدا لتحويلها إلى "كيان درزي" ذي حكم ذاتي، يشكّل حاجزا أمنيا متقدما في الجنوب السوري، ولم تكن غارات 15 يوليو/تموز على دمشق والسويداء مجرد ردّ عسكري تقليدي فحسب، بل يعود هذا التدخل إلى أسطورة سياسية-دينية تُسمّى "حلف الدم"، وهي رابطة عقائدية تلزم إسرائيل بحماية الدروز حيثما وجدوا، استنادا إلى رواية لقاء النبي موسى بشعيب (النبي المُلهم في المذهب الدرزي)، لقد حوّلت إسرائيل هذه الأسطورة إلى سلاح جيوسياسي: ذلك حين هدّد الشيخ موفق طريف، الزعيم الروحي للدروز الإسرائيليين، بـ "خيانة الحلف" إذا لم تنقذ إسرائيل إخوتهم في سوريا، فتحركت الحكومة فورا، بل إن مصادر إسرائيلية كشفت عن مناقشات لإرسال شباب دروز من الجيش الإسرائيلي للقتال في السويداء. وبينما كانت الطائرات الحربية تقصف دمشق، كانت طائرات الشحن تحلق نحو السويداء محملة بـ "منح إنسانية" بقيمة 2 مليون شيكل (أغذية، أدوية، تجهيزات طبية)، وهذه معادلة إسرائيلية قديمة: القصف يفتح الأرض.. والمساعدات تُهيئ القلوب، ووراء خطاب "حماية الأقليات" تختبئ إستراتيجية التوسع الإسرائيلي الأكثر خطورة منذ 1967، حيث تعيد إسرائيل إحياء مفهوم "ممر داوود" – وهو شريط يمتد من الجولان المحتل عبر درعا والقنيطرة إلى السويداء، ثم يتسع شرقا نحو البادية السورية حتى حدود العراق، وهذا الممر، المستند إلى رؤية توراتية من النيل للفرات، يصبح الآن قابلا للتطبيق عبر تحويل الدروز إلى "حارس حدود" طوعي، وفي السياق لم يخجل وزير الدفاع يسرائيل كاتس من الإعلان: "سياستنا في سوريا تتضمن الوجود في جبل الشيخ ومنطقة الحزام الأمني". فجبل الشيخ (حرمون) ليس مجرد قمة، بل عين ساهرة ترى دمشق وبيروت وتطل على حوض المتوسط، ومن يسيطر عليه يملك مفاتيح سوريا اللبنانية. والمفارقة الأكثر قتامةً تكمن داخل الجيش الإسرائيلي نفسه. فبينما يقصف الطيران مواقع سورية "دفاعا عن الدروز"، يُواجَه نتنياهو بتمزق هويات جنوده: هذا التناقض يخلق "قنبلة اجتماعية" داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، فالصراع التاريخي بين بدو سوريا ودروز السويداء قد ينتقل شرارته إلى داخل وحدات الجيش الإسرائيلي التي تضم دروز وبدو، خاصة مع تصاعد خطاب "الدم الدرزي". 

  واستخدام الورقة السورية كجسر لربط التطبيع الخليجي بالمسار الإسرائيلي، عبر تقديم دمشق كـ "تذكرة دخول" للنظام الإقليمي الجديد، وتحويل "البوابة الدرزية" إلى منفذ دائم لزعزعة الاستقرار، وإشغال الحكومة السورية بمعارك هوياتية تلهيها عن الملف الجيوسياسي الأكبر، فإن اشتباكات الأمس لم تكن كسابقاتها، مشاركة الطيران الإسرائيلي المباشر - وفق قراءة دقيقة - تنمّ عن نية تكثيف الضغط لتحقيق هدفين متلازمين: تدمير البنية التحتية للقوات السورية في الجنوب، وإجبار دمشق على الانسحاب الكامل من السويداء، وهذا التصعيد المفتوح، الذي يتجاوز حتى الموقف الأمريكي المتراخي، يؤشر لبدء مرحلة "العربدة الإستراتيجية" التي تعتمد على خلق وقائع جديدة قبل فوات الأوان، واستمرار هذا النمط من المعارك يعني أن التأخر في تحقيق ثلاثة أهداف حاسمة أصبح رفاهية لا تتحملها دمشق: إكمال بناء الجبهة الداخلية، وإنجاز المصالحة الوطنية الحقيقية، وتعميق التحالفات العربية والإقليمية، والفراغ الذي تتركه هذه الملفات هو بالضبط الثغرة التي ستنفذ منها إسرائيل لتحويل سوريا إلى آخر حلقة في سلسلة التطبيع، وبذلك فإن السويداء اليوم ليست مجرد جبل وشوارب طويلة، بل مقياس لإرادة السوريين فإما أن تصبح شوكة في حلق المشروع التوسعي، أو بوابة لمشهد إقليمي جديد تقسّم فيه الأدوار على أنقاض الدم السوري، وبما أن الشرق الأوسط قبور إمبراطوريات راهنت على تقسيمنا، فلماذا لا نعلّمها درسا أخيرا فوق أرض السويداء؟.

مقالات متعلقة