بحث

ورقة الأكراد المحترقة: حلم الفيدرالية ينهار.. وواشنطن تغسل يديها

تركي المصطفى

في قاعات القصر الجمهوري في العاصمة دمشق، عادت أوراق اللعبة السورية لتُفرش على طاولة مصيرية يوم التاسع من يوليو. حيث لم يكن مجرد اجتماع، بل كان استعراضا للقوى المتبقية، ومراجعة للحسابات المريرة، واختبارا لإرادات تتصارع فوق جثة وطن مزقته رياح الخارج ودواخله. فالحكومة الانتقالية، وقوات سوريا الديمقراطية، والوجوه الكردية البارزة، ومبعوثون من عواصم صنعت الأزمة ثم راحت تبحث عن مخارجها – كلهم التقوا، تحدثوا، وتبادلوا الابتسامات الدبلوماسية الباردة وكانت المرجعية "اتفاق العاشر من مارس"، تلك الوثيقة الهشة التي أرادت أن تكون جسرا فوق هوة سحيقة، فإذا بها أشبه بحبل مشدود يسير عليه لاعبون يخشون السقوط ولا يثقون بيد تمتد لإنقاذهم.

وفي العودة قليلا إلى جوهر ذلك الاتفاق الذي وُلد في رحم تعقيد لا يُحسد عليه:

*   وقف نار هش: كان أول البنود، وربما أكثرها واقعية في بلد اعتاد صوت الرصاص.

*   دمج عسكري شائك: إلحاق (قسد) العسكرية والمدنية بجسد الدولة السورية – عملية أشبه بمحاولة دمج نار وماء.

*   تسليم جغرافي: تنازل (قسد) عن مواقع سيطرتها في الشمال الشرقي، تلك المنطقة الغنية بالنفط والماء، لصالح دمشق. خطوة تقطع شرايين القوة التي حمتها أمريكا عبر سنوات الحرب..

لقد اتخذ الطرفان خطوات ملموسة، تضمنت التالي:

*   مناطق خفض تصعيد قرب سد تشرين، تلك المنشآت الحيوية التي صارت ورقة مساومة.

*   دمْج حيين كرديين تاريخيين في إدارة مدينة حلب المتعطشة للاستقرار، خطوة رمزية قد تفتح الباب أو تُغلقه.

لكن، وأمام هذه الخطوات "الإيجابية" التي روجت لها فوزة يوسف، الرئيسة المشاركة للإدارة الذاتية، معلنة أن "المفاوضات ستستمر في مرحلة لاحقة"، لقد التزم الجميع "بالخطوط العريضة" شكليا، لكن المواقف الجوهرية لم تتزحزح شعرة. فالحكومة الانتقالية في دمشق، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، لا تزال تتمسك بوحدانية الدولة وسلطتها المركزية، رافضة أي حديث عن "فيدرالية" أو "لامركزية" كما تطرحها قوات سوريا الديمقراطية.

مع ذلك لا يمكن قراءة مشهد دمشق بمعزل عن الظل الطويل لواشنطن. فالمبعوث الخاص توماس باراك لم يكن مجرد مراقب محايد، بل كان لاعبا رئيسيا بخطاب مزدوج يكشف تناقض السياسة الأمريكية:

*   خطاب العلن: صرّح باراك، أن الطرفين "لا يزالان على خلاف"، واتهم قوات سوريا الديمقراطية بـ "البطء" في التفاوض وقبول صفقة مع دمشق. ثم جاءت الضربة الأقسى: "الفيدرالية لا تنجح في سوريا". كلمات هي بمثابة صفعة لمطلب أساسي للأكراد، وهي رسالة واضحة: لقد آن الأوان للتكيف مع أولوياتنا الجديدة، ودمشق هي محور هذه الأولويات الآن.

*   خطاب المسار الموازي: بينما كان باراك يلقي باللوم على (قسد)، كان زملاؤه ينسجون خيوطا أخرى مع دمشق. فاجتماع الشرع والشيباني مع باراك نفسه في التوقيت ذاته، والمكالمة الهاتفية السابقة بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ونظيره الأمريكي ماركو روبيو، تكشف عن مسار دبلوماسي منفصل ومكثف. والنتائج؟

    *  تشكيل لجنة أمريكية-سورية "خاصة" لملف الأسلحة الكيميائية – ورقة ضغط قديمة تُستخدم اليوم كجسر للتقارب.

    *  وعد أمريكي صريح (من روبيو) بالعمل مع الكونجرس لإلغاء عقوبات "قيصر" القاسية في الأشهر القادمة، وهي خطوة ستُحيي شرايين الاقتصاد السوري المنهك.

    *  دعوة رسمية للشيباني لزيارة واشنطن، والتلميح بإعادة فتح السفارة الأمريكية في دمشق، إشارات استعادة علنية لمكانة النظام.

لكن واشنطن لا تمنح دون أن تطلب. ثمن هذا التقارب واضح في "توقعات" روبيو: كبح النشاط الفلسطيني المسلح على الأراضي السورية، ومنع عودة داعش (وهو تهديد مشترك لكن إدارته تحمل شروطا)، والأهم: خطوات نحو الانضمام لاتفاقات إبراهيم – أي التطبيع الكامل مع إسرائيل. ها هي الصفقة تُعرض على طاولة دمشق: رفع العقوبات مقابل تنازلات استراتيجية في ملفات السيادة والمقاومة.

والسؤال الملح: ماذا بعد التاسع من يوليو؟ المشهد يعج بالتناقضات التي تصنع مستقبلاً غامضاً:

1.  الالتزام الهش، الجميع يرفع شعار الالتزام باتفاق مارس، لكنه التزام فوق بركان من القضايا العالقة: شكل الحكم (مركزي أم لا مركزي)، ومصير المؤسسات الكردية، وطبيعة دمج قوات (قسد) في الجيش السوري (هل سيكون دمجاً حقيقياً أم تفكيكاً؟).

2.  المساومة على الزمن، هناك تقارير تتحدث عن نية (قسد) لاقتراح تمديد الجدول الزمني للتنفيذ لما بعد 2025، ومحاولة إدخال "المطالب الكردية غير المحددة" إلى طاولة التفاوض. إنها محاولة لكسب الوقت في مواجهة ضغوط أمريكية واضحة وموقف دمشقي متصلب.

3.  اللعبة الكبرى: دمشق تعرف قيمتها المتجددة في المعادلة الإقليمية، خاصة مع تصاعد حدة الصراع في أوكرانيا وتنافس القوى العظمى. والتقارب مع واشنطن، حتى لو كان مرحليا، يعطيها هامش مناورة أكبر أمام أعدائها الجدد (روسيا، إيران). هل تستخدم هذه الورقة لتحسين شروط الصفقة مع الأكراد، أم لسحق مطالبهم تحت ذريعة "الوحدة الوطنية" و"السيادة"؟

4.  المعضلة الكردية: وجد الأكراد أنفسهم، مرة أخرى، في مأزق وجودي. حليفهم الأمريكي يترنح ويتجه نحو مصالحة مع خصمهم اللدود في دمشق. ومشروعهم الذاتي (سواء سُمي فيدرالية أو لامركزية) يواجه رفضاً سوريا جوهريا ودعما أمريكيا متلاشيا. والخيارات مرّة: التفاوض من موقع ضعف متزايد، أو المخاطرة بالعودة إلى مربع الصراع المفتوح بلا حام دولي.

وبالنتيجة، فاجتماعات التاسع من يوليو لم تحل الألغاز، بل كشفت عن عمق الهُوّة التي لا تزال تفصل بين رؤى سوريا المستقبلية. ولعل اتفاق مارس لم يمت، لكنه يسير على حبل مشدود فوق هوة من الشكوك والمصالح المتضاربة. فأمريكا، ببراغماتية باردة، تعيد رسم تحالفاتها، مستعدة للتخلي عن حلفاء الأمس مقابل كسب حلفاء اليوم أو تحييد أعداء الغد. والأكراد، أصحاب الرؤية الانفصالية تحت أي مسمى، يواجهون اختبارا قاسيا للوجود بين مطرقة المركزية السورية المتصلبة وسندان المصلحة الأمريكية المتقلبة. فالتاريخ يسجل، والأيام القادمة هي الفيصل.

مقالات متعلقة