بحث

المفاوضات السورية-الإسرائيلية في سياق اختلال موازين القوى

تركي المصطفى

في البدء كانت الجغرافيا... ذلك القدر الذي جعل من سوريا جسْراً بين القارات ومفترقاً للغزاة. وبعد عقد من الحرب التي جعلت الأرض ساحة لإرادات متصارعة، خرجت دمشق منهكة ولكنها حاملة درسا واحدا: أن الاشتباك المباشر مع إسرائيل، تحت سطوة موازين القوى المختلَّة، لم يعد مجرد مخاطرة، بل هو تهديد وجودي يُوشك أن ينهي فكرة "الدولة" نفسها. وهنا كان صمت المدفع للحكومة الجديدة أكثر إيلاما للخصوم من دوي المدافع الفارغة. وأدرك الشرع حقيقة مؤسِّسة: في مواجهة إسرائيل، الحرب ليست خيارا، بل انتحارا. والنتيجة؟ تحوُّل جيوسياسي مذهل حوَّل دمشق من "دولة منبوذة" إلى لاعب يُجلس خصومه على طاولة التفاوض. 

نهاية مسرحية الصراخ 

لم يعد صوت سوريا في المحافل الدولية ذلك الصوت المبحوح الذي يطلق التهديدات لتبخرها رياح الفجر. لقد دفن العهد الجديد "تراث الصراخ" الذي حوّل الدبلوماسية السورية إلى فقاعة سخرية، واختار الرئيس الشرع مسارا ثلاثي الأبعاد:

ـ الخروج من القفص الدولي: محاولة انتشال سوريا من مستنقع العزلة، وإعادة غرسها في تربة المجتمع الدولي.

ـ إعادة تشكيل التحالفات: انتهجت دمشق سياسةً خارجيةً قائمةً على إعادة هندسة التحالفات بحذرٍ تكتيكي، حيث حوّلت شبكة علاقاتها الدولية إلى رافعةٍ لاختراق العزلة، وتحويل التناقضات الإقليمية إلى أوراق ضغطٍ فعّالة.

ـ اللجوء إلى المؤسسات: تحويل الأمم المتحدة والعلاقات الثنائية إلى درعٍ واقٍ – ليس لخوض حرب، بل لكبح جماح آلة الحرب الإسرائيلية.

اللحظات المحورية: 

لم يكن اللقاء في قصر اليمامة السعودي (24 مايو/أيار) مجرد مصافحة بين الشرع وترامب. لقد كان زلزالا جيوسياسيا أعاد رسم الخرائط: وهنا يكمن السؤال، كيف تحوَّلت سوريا من فريسة سهلة لإسرائيل إلى طرف يُفاوض؟ الإجابة تكمن في: 

أولا: الضغط التركي-الأمريكي: تحالف غير معلن كبّل يد إسرائيل المندفعة، بعد أن حوّل ترامب "اتفاقيات منع الاشتباك" بين أنقرة وتل أبيب إلى قيد على حريّة العمل الإسرائيلي في الأجواء السورية. وهذا القيد – شاءت تل أبيب أم أبت – منح دمشق هامشا نادرا للتنفس حوَّلها من مشهد مفتوح للقصف إلى منطقة مُسيَّجة بقواعد الاشتباك. 

ثانيا: المفاوضات المستحيلة: تحولت من سرّ خافت إلى واقع مفروضٍ بصرامة ترامب: "هذا ليس خيارا.. إنه طريق خروجكم الوحيد".

هنا تحوّل الموقف السوري من الدفاع اليائس إلى الهجوم الدبلوماسي. فالمفاوضات – ذلك الوحش الذي ظنّه الجميع مستحيلا – تحركت لأن مصالح القوى الكبرى، وحسابات البقاء السورية، والرهانات الإقليمية، اصطفت مع بعضها في لحظة نادرة.

أحلام نتنياهو 

لا يمكن فهم تحرُّك الحكومة السورية الجديدة دون رؤية حجم الكارثة التي خطط لها بنيامين نتنياهو لسوريا. بعد سقوط نظام الأسد، حيث أطلقت إسرائيل واحدة من أجرأ عملياتها منذ 1967: 

ـ احتلال "تاج سوريا": قمة جبل الشيخ التي تطل على دمشق كسكين على الرقبة، تحولت إلى منصة مراقبة دائمة. 

ـ الإبادة المنهجية: تدمير سلاح الجو، شبكات الدفاع الجوي، المخازن الباليستية – بهدف شل قدرة سوريا العسكرية لجيلٍ كامل. 

ـ تحويل المناطق العازلة: إلى شبكة عنكبوتية من القواعد الإسرائيلية المتوغلة. 

ـ تفكيك الدولة عبر دعم كانتونات منشقة (دروز السويداء، قسد الشرقية).

لكن أحلام نتن ياهو اصطدمت بـ الإعصار العربي غير المتوقّع. فلقاء الرياض ورفع العقوبات أعادا سوريا إلى اللعبة الدولية، وأجبرا إسرائيل على الجلوس للمفاوضات. ورغم نجاح نتنياهو في تعميق الشروخ الداخلية (خاصة في السويداء)، وكبح الزحف التركي شمالا، إلا أنه خسر المعركة الحاسمة مع أنه نجح في إضعاف سوريا، وفشل في تحويلها إلى دولة أشلاء. 

المفاوضات

في قصر الإليزيه (مايو 2023)، كشف الشرع المحادثات غير المباشرة التي كانت جارية مع إسرائيل. لكن المطلب السوري: العودة إلى نقطة الصفر، وتنفيذ اتفاقية فك الاشتباك 1974 كلمةً كلمةً، والانسحاب من كل شبر مُحتَلّ بعدها. والشرط الإسرائيلي: "سلام شامل" يدفن ملف الجولان إلى الأبد، معترفا بالضم الأمريكي (2019). وهنا تكمن الكارثة: دمشق تريد العودة إلى 1974، وتل أبيب تريد أن تبدأ من 2024. وبينهما 50 عاما من الدم والنار. والجولان ليس مجرد أرض. إنه وشم في الذاكرة الجمعية السورية. وخسارته في 1967 كانت السكين التي طعنت شرعية حافظ الأسد. وكشفت تسريبات "آي نيوز" العبري (4 يوليو) عن سيناريوهين هزليين يختصران جنون الدبلوماسية الإسرائيلية:

ـ "تقطيع استراتيجي": ثلث تحتله إسرائيل للأبد (المرتفعات المُطِلة على دمشق)، وثلث تُعيده لسوريا، وثلث "تُؤجّره" منها 25 عاما!

ـ "مزاد الأوهام": تحتفظ إسرائيل بثلثي الجولان، وتعطي سوريا الثلث الباقي.. لربما تستأجره منها لاحقاً!

وهذه ليست خططا جادّة – بل آلة لغسيل الاحتلال، تهدف لترويج أسطورة أن إسرائيل تقدم "تنازلات" عن أراض ليست ملكها أصلا!

الخاتمة 

 تسير المفاوضات كقطار في نفق، من جهة: 9 قواعد إسرائيلية تنبت كالفطريات السامة في المنطقة العازلة، بعضها يتوغل 15 كم داخل الأراضي السورية، ومن جهة أخرى: مطلب سوري غير قابل للتفاوض – الانسحاب أولا، ثم الحديث عن سلام. والشرع يدرك أن "اتفاقات إبراهيم" ليست سلاما، بل استسلاما للموازين المختلة. لذا فهو يرفض أن يكون الضحية في مسرحية "السلام مقابل السلام" الإسرائيلية. والسؤال الذي يلوح في الأفق كشبح: هل يمكن بناء سلام فوق جثث الجغرافيا والتاريخ؟ الإجابة تكمن في أن إسرائيل عليها أن تدرك بأن السلام الحقيقي لا يُبنى على سيناريوهات التقطيع، بل على الاعتراف بأن الجولان سوريٌ، وإذا لم تفعل، فستظل اتفاقياتها – مثل اتفاقيات الماضي – حبرا على ورق ممزق. أما إذا أدركت، فقد يتحول صمت السوريين من استراتيجية بقاء إلى أساس لشرق أوسط مختلف. في هذه المنطقة، ذلك ليس تفاؤلا؛ إنه تحدٍّ وجودي.

 

 

 

 

مقالات متعلقة