بحث

كسر عظم الباجة: لماذا يمسك حزب الله بالسلاح الخفيف ويُفكّك الصواريخ؟

تركي المصطفى 

من سوريا التي تلملم جراحها، حيث تراقب لبنان وهو يتنفس بصعوبة تحت وطأة التحولات الجيوسياسية المتسارعة، تبدو بيروت وكأنها لوحة شطرنج معقدة. واليوم، تتحرك إحدى أهم القطع على هذه اللوحة، فميليشيا حزب الله، في حركة تبدو حذرة، ربما بلغة الشطرنج: "مراجعة". ما كشفته مصادر مطلعة نقلتها رويترز في الرابع من يوليو الجاري ليس مجرد نبأ عابر، بل هو صدى لزلزال هز أركان هذه المنظمة العابرة للحدود، زلزال اسمه حرب السابع من أكتوبر وتداعياتها التي لا تنتهي.

تخيلوا هذا المشهد: منذ نوفمبر الماضي، في غرف مغلقة ربما تكون مخفية بين التلال اللبنانية أو في ضواحي بيروت الجنوبية، تجتمع مجموعات عمل صغيرة من داخل حزب الله. مهمتهم ليست تنفيذ عملية عسكرية جديدة، بل هي أكثر تعقيدا بكثير: مراجعة جوهرية. نعم، مراجعة لقيادة ميليشيا الحزب نفسه، لهيكله العظمي التنظيمي، لدوره السياسي المتشابك مع الدولة اللبنانية الهشة، ولبرامجه الاجتماعية والتنموية التي نسجت شبكة أمانه الجماهيري. ولكن الأكثر إثارة هو ما يطفو على السطح: إعادة النظر في مخزون الأسلحة الهائل الذي طالما اعتُبر عماد قوة الحزب وعصاه الغليظة. هذا، كما علمت "شبكة بلدي" من مصدر مطلع على تلك المداولات، هو لب عملية إعادة التفكير التي تمر بها المنظمة.

لا نخلط بين التكتيك والاستراتيجيا هنا؛ فما نراه ليس انكسارا في الرؤية، بل هو إعادة حساب باردة للخسائر والأرباح. كما أن هذا ليس تغييرا في الأهداف الاستراتيجية الأساسية، تلك التي ترفع شعار مقاومة إسرائيل وتدميرها. هذا، كما يبدو، إنما هو "إعادة هيكلة استراتيجية قسرية"، نوع من التكيف الواقعي القاسي مع حقائق جديدة مزقتها الحرب. الحرب الإسرائيلية على غزة التي أشعلت الجبهة اللبنانية، الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله نفسه التي استمرت لأكثر من عام، سقوط نظام الأسد في سوريا في ديسمبر الماضي، ثم الحرب الخاطفة لكن المكلفة بين إسرائيل وإيران، كلها أحداث شكلت ضربات متتالية لهذا الكيان الذي ظل لعقود أحد أكثر الفاعلين ثباتاً وقوة في المنطقة.

الضربة الأولى كانت على الأرض اللبنانية. فالعمليات الإسرائيلية المكثفة، خاصة منذ بداية عام 2024، لم تقتصر على قصف الصواريخ المخبأة في الأنفاق. لقد استهدفت بذكاء قيادات ميليشيا حزب الله الميدانية والعسكرية، وأحدثت ثغرات عميقة في صفوف قواته البرية. والأهم، أنها كشفت زيف أحد أركان الردع الرئيسية لميليشيا الحزب: فكرة أن ترسانته الصاروخية الهائلة – تلك التي كلفت مليارات الدولارات وجُلب أغلبها سرا من إيران وصُنع بعضها الآخر في سوريا – قادرة على ردع إسرائيل أو تغيير حساباتها الاستراتيجية بشكل جذري. فالواقع أثبت أن إسرائيل، بدرعها الحديدي المتطور وبقدرتها على توجيه ضربات دقيقة وقاسية، استطاعت امتصاص الضربات وتكبيد الحزب خسائر فادحة دون أن يتزعزع قرارها السياسي أو العسكري. والصواريخ البعيدة المدى، والطائرات المسيرة، وقذائف الهاون التي أمطرت شمال إسرائيل لأشهر، فشلت في تحقيق الردع المنشود. كان هذا صفعة قاسية لنظرية الأمن القائمة على التهديد الصاروخي المكثف.

لكن الضربة القاضية، أو شبه القاضية، جاءت من الشرق. سقوط نظام (بشار الأسد) في سوريا في ديسمبر 2024 لم يكن مجرد تغيير نظام في دولة جارة. لقد كان قطع شريان الحياة الاستراتيجي لحزب الله. فسوريا لم تكن مجرد جبهة أخرى؛ لقد كانت المعبر الرئيسي، شبه الوحيد في السنوات الأخيرة، للسلاح والتمويل والخبرة من إيران إلى حزب الله، وانهيار هذا الجسر يعني أن قدرة الحزب على إعادة التموين وإعادة البناء وإعادة تجميع صفوفه بعد الضربات الإسرائيلية قد تضررت بشدة، إن لم تكن قد شُلّت لوقت طويل. وعلينا أن نتخيل شركة كبرى تفقد فجأة سلسلة التوريد الرئيسية لها وسط أزمة مالية طاحنة. هذا هو الوضع بالضبط.

ولم تأت الضربة الثالثة من مكان بعيد، فالحرب الإسرائيلية الإيرانية المباشرة التي استمرت 12 يوما، رغم قصرها، كانت مكلفة للغاية بالنسبة لإيران، خسائرها من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة وأنظمة الدفاع الجوي كانت جسيمة، والنتيجة المنطقية، طهران، التي تواجه أيضا ضغوطا اقتصادية خانقة وعقوبات مشددة، ستُجبر على إعطاء الأولوية المطلقة لإعادة بناء ترسانتها الدفاعية والهجومية الخاصة. وهذا يعني، حتما، تقليصا في الموارد المتاحة لدعم حلفائها الخارجيين، وعلى رأسهم ميليشيا حزب الله. نهر التمويل والأسلحة الإيراني الذي ظل يتدفق لعقود بات ضعيفا ومهددا بالجفاف. وهذا الواقع الجديد يفرض على ميليشيا حزب الله شيئا لم يعتد عليه: التقشف الاستراتيجي، والاعتماد على الذات بقدر أكبر.

في هذا المناخ المتأزم، تبرز الفكرة الأكثر إثارة في تقارير المصادر: أن ميليشيا حزب الله بدأت ترى في ترسانتها الصاروخية الضخمة عبئا أكثر منه أداة قوة، وفكرة أن "الأسلحة مسؤولية" هي تحول جوهري في التفكير، والإشارات العملية بدأت تظهر: تسليم "عدد" من مستودعات الأسلحة في جنوب لبنان بالفعل، والنظر الجاد في تسليم أخرى عبر البلاد. لكن هذه الخطوة ليست استسلاما أو نزعا كاملا للسلاح، كما يخشى البعض أو يتمنى آخرون. إنها لعبة تفاوضية ذكية، تقدم على طبق ما يبدو تنازلا جزئيا مقابل مكسب استراتيجي أكبر: الانسحاب الكامل للجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان.

نعم، الجيش الإسرائيلي لا يزال متمركزا حتى اليوم في خمسة مواقع استراتيجية رئيسية في الجنوب اللبناني، وفقا لاتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في نوفمبر 2024. مهمته: منع حزب الله من إعادة تشكيل قوته العسكرية على الحدود، ووجود هذه القوات هو شوكة في خاصرة الحزب، يحد من حريته ويعيق عملية إعادة بنائه، لذا، فإن فكرة "أسلحة مقابل أراض" تبدو معادلة مقبولة لميليشيا حزب الله في هذه المرحلة: تسليم بعض المستودعات (ربما الأقل أهمية أو الأصعب صيانة أو الأكثر عرضة للاكتشاف) مقابل استعادة السيطرة الكاملة على الجنوب. هذه مساحة حيوية تحتاجها ميليشيا الحزب بشدة للتعافي.

لكن ماذا عن المقاومة؟ هنا تكمن المفارقة. فالمصادر تؤكد أن حزب الله ينوي الاحتفاظ بما يعتبره "الأساسيات" لعملياته: الأسلحة الخفيفة وصواريخ مضادة للدبابات (مثل كورنيت). لماذا هذه تحديدا؟ الإجابة واقعية وبسيطة: فهي أسهل في الحصول عليها (حتى عبر قنوات غير إيرانية مباشرة)، وأرخص بكثير، وأسهل في الصيانة والتخزين والاختفاء، وفعالة جدا في المعارك البرية والدفاع عن مواقع محددة. لقد أثبتت هذه الأسلحة، جنبا إلى جنب مع الطائرات المسيرة الصغيرة وقذائف الهاون، فاعليتها خلال الأشهر الطويلة من المواجهة. إنها تمثل نموذجا للحرب غير المتماثلة ذو تكلفة-فعالية عالية، وهو ما يتناسب مع وضع الحزب الحالي المثقل بالقيود المالية واللوجستية.

هل هذا يعني تراجعا عن الحلم الكبير بتدمير إسرائيل؟ الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، سارع إلى تبديد أي شكوك من هذا القبيل. في خطاباته المتكررة، "لم يترك قاسم مجالا للالتباس؛ فمثلَ من يُمسك بطبق "باجة" عراقية دسمة بكلتا يديه خشيةَ انتزاعها، تمسّكَ في خطاباته المتكررة بحق حزبه "الفريد" في الاحتفاظ بالسلاح – ذلك الميراث الثقيل الذي يعتبره وجبته التاريخية لمواجهة إسرائيل، وهو الخطاب الثابت الذي لم يتزحزح. حتى تهديداته باستئناف الهجمات إذا لم تنسحب إسرائيل بحلول فبراير 2025 (وهو الموعد الذي مضى دون تنفيذ) كانت إشارة على استمرارية الهدف، وليس تغييره. لكن التهديدات بقيت حبرا على ورق، وهذا في حد ذاته دليل على الحسابات الجديدة. ويرجح المراقبون أن التردد في استئناف القتال نابع من الحاجة الملحة للراحة وإعادة البناء وإعادة التشكيل. فالمداولات الداخلية المبلغ عنها، التي تركز على الروافع السياسية لتحقيق الانسحاب الإسرائيلي بدلا من العودة الفورية للمواجهة العسكرية الكاملة، تؤكد هذا التقييم.

والذي نستنتجه أننا أمام مشهد ميليشيا منهزمة مجبرة على "إعادة اختراع" نفسها تحت الضغط. إنها عملية تعلم قاسية، قائمة على دروس ميدانية دامية، لذا، فإن إعادة التفكير هذه هي علامة براغماتية، ومحاولة من ميليشيا قتلت وجرحت آلافا، وخسرت العشرات من قادتها ومقاتليها، وفقدت خط إمداد حيوي، وشهدت تقلص داعمها الرئيسي، ولاستيعاب صدمة هذه الضربات المتلاحقة والعثور على صيغة جديدة تمكنها من البقاء والاستمرار في السعي لتحقيق أهدافها القديمة، ولكن بوسائل جديدة. قد تسعى في المستقبل إلى إعادة بناء قوة في الجنوب – لكنها قد تكون قوة مختلفة، أقل ظهورا، وأكثر تركيزا على حرب العصابات والدفاع المحلي، مستفيدة من فراغ قد يخلقه انسحاب إسرائيلي تفاوضي. قد تستثمر أكثر في قدراتها السيبرانية أو في حرب المعلومات. المهم أنها لن تكون نسخة طبق الأصل من ميليشيا حزب الله ما قبل السابع من أكتوبر.

ختاما، ما يجري داخل غرف حزب الله المغلقة ليس انقلابا في الأيديولوجيا، بل هو عملية جراحية استراتيجية لاستئصال الأورام التي خلفتها الحرب وإعادة تأهيل الكيان لمواجهة مرحلة جديدة، مرحلة الموارد المحدودة والاعتماد على الذات والضغوط المتزايدة، دون التخلي عن حلمه الطويل الأمد. إنها مراجعة قسرية، وتكيف مرير، واستمرارية مقنعة في آن واحد. والمشهد اللبناني، كما دائما، هو أول من يشهد فصول قصة هذه الميلشيا المتجددة. والسؤال الذي يلوح في الأفق: هل سيكفي هذا التكيف لضمان بقاء الحزب كقوة مهيمنة، أم أن الزلزال الذي هز أركانه كان عميقا بما يكفي لإعادة رسم خريطة القوى في لبنان نفسها؟ الجواب، كما هي العادة في هذه الأرض المعقدة، يكتب الآن بين السطور وفي دهاليز تلك المداولات السرية.

 

 

مقالات متعلقة