بحث

إيران من رماد الثورة إلى نار الانتفاضة

تركي المصطفى

في قلب العواصف السياسية، حيث تتهاوى الأقنعة وتنكشف الحقائق الخفية، تولد اللحظات الكاشفة التي لا ترحم ضعف الأنظمة ولا تجامل على حساب الحقيقة. وإيران اليوم تقف في عين هذه العاصفة، ليس كمجرد ضحية لظروف طارئة أو ضغوط خارجية، بل كحالة دراماتيكية تكشف عن أزمات متراكمة في جسد النظام، مثل جرح نازف يفضح عمق العدوى. 

ما جرى ويجري في إيران ليست أزمة عابرة تعالج بقرار إداري أو خطاب حماسي، بل هي لحظة حصاد لبذور مُرة زُرعتْ على مدى عقود: فساد استشرى حتى أصبح جزءا من نخاع الدولة، وهشاشة بنيوية تهدد أسس المشروع السياسي ذاته. والنظام الإيراني، الذي اعتاد لعقود على تحويل التحديات إلى ورقة ضغط وجودية، يواجه اليومَ سؤالا وجوديا حقيقيا: هل يستطيع أن يخترع أدوات جديدة للبقاء، أم أنّ قبضته الأمنية المشدودة ستحوله إلى سجن كبير يديره الخوف ويحرسه اليأس؟ 

في غرف العملياتِ المغلقة، حيث تحسب الخطواتُ بعناية أشبه بحركة لاعب شطرنج أمام نهاية محتومة، تقرع طبول المواجهة ليس مع الخارج فحسب، بل مع الذات أولا. فالأزمات الكبرى لا تدمر الأنظمة من الخارج إلا إذا نمت بذور الدمار في داخلها. وإيران، بكل ما تحمله من تاريخ معقّد وإرث ثوري، تجبر المراقبَ على طرحِ السؤال الأصعب: هل انكشف الزمن الإيراني أم أنّ النظامَ قادر على اختراع زمن جديد؟

إيران وتفكك الداخل 

ما يحدث الآن داخل النظام الإيراني ليس سوى إعادة ترتيب للأوراق تحت غطاء الأزمات، حيث يستخدم "الأمن القومي" و"الاختراقات الأجنبية" كشعارات مكررة لتبرير تشديد القبضة الأمنية. لكن هذه الآلية، التي اعتاد عليها النظام لعقود، لم تعد تخدع شعبا اكتشف أن الفساد يستوطن قلب الدولة، وأن القمع ليس سوى تعبير عن عجز النخبة الحاكمة عن تقديم حلول حقيقية. 

اللافت أن الشماعة التقليدية – "العدو الخارجي" – بدأت تنهار، خاصة عندما أصبح الفساد يضرب حتى أركان "الحرس الثوري"، الذي طالما مثّل حصن النظام الأخير. والفضيحة لم تعد سرا، بل تحولت إلى جرح مكشوف، يعيد تعريف العدو الحقيقي: ليس قوة خارجية، بل نخبة تنهش جسد الدولة من الداخل. 

وهنا يبرز السؤال المحوري: هل تحتاج إيران إلى غزو خارجي كي تنهار؟ التاريخ يعلّمنا أن الأنظمة الأكثر صلابة غالبا ما تتهاوى حين يفقد أمنها الداخلي الثقة بها، وحين يتحول القمع من أداة سيطرة إلى دليل إفلاس. وإيران قد لا تهزم بقوة أميركا أو إسرائيل، لكنها قد تنهار حين يدرك شعبها – وأجهزتها الأمنية – أن النظام لم يعد قادرا حتى على حماية نفسه من نفسه. 

الدرس الأهم هو أن الاستقرار الحقيقي لا يبنى بالمدفعية، بل بالشرعية. وعندما تتحول الدولة إلى آلة قمع بلا رؤية، فإن مصيرها يصير كالسفينة التي يحفر طاقمها ثقوبا في قاعها.

الحرس الثوري: وإعادة تدوير النظام

في المشهد الإيراني المعقّد، يظل الحرس الثوري المؤسسة الأكثر غموضا والأشد فاعلية؛ فهو العمود الفقري للنظام، لكنه قد يكون - في لحظة مفصلية - المطرقة التي تحطمه. التاريخ لا يكرر نفسه حرفيا، لكنه يعلمنا أن النخب الحاكمة نفسها قد تتحول إلى أداة انهيار حين تدرك أن السفينة تغرق، وأن "ولاية الفقيه المطلقة" لم تعد تكفي لإنقاذها. 

اليوم، تتراقص أنباء عن تحركات خفية داخل أروقة السلطة، قد تأتي من قلب الحرس نفسه، أو عبر تحالفات غير متوقعة بين جناح محافظ متمرد وشرائح من الطبقة الوسطى التي سئمت وعود الثورة. هذه التحركات لن تعلن عن نفسها كتمرد صريح في البداية، بل ستتخفى وراء شعارات "تصحيح المسار"، لكنها قد تتحول إلى زلزال يعيد رسم خريطة القوى من جذورها. فالحرس الثوري لم يعد مجرد حام للثورة، بل أصبح شريكا في الحكم، بل ربما الحاكم الحقيقي من خلف الستار. هذه القوة المفرطة تحمل بذور تناقضها: فكلما زادت هيمنته، زادت شكوكه في كل من حوله، حتى في نفسه. هناك من داخل هذه المؤسسة من يرى أن النظام الخميني تحول إلى عبء، وأن "إنقاذ إيران" قد يتطلب التضحية ببعض رموزه. 

لكن السؤال الأعمق: أي إيران ستولد من رحم هذا الصراع؟ التاريخ يشير إلى أن الجيوش حين تتدخل في اللعبة السياسية، إما أن تنهي النظام أو تعيد تدويره، لكنها نادرا ما تخرج دون أن تحترق بألسنة نارها. والشارع الإيراني، الذي ظل لعقود يغلي تحت السطح، قد يجد في أي انقسام بالحرس فرصته الذهبية للانفجار. وعندها، لن يكون الأمر مجرد ترتيب دفتر على سطح سفينة، بل موجة عاتية قد تجرف كل من يقف في طريقها، بمن فيهم من ظن نفسه ربان السفينة. وفي النهاية، النظام الإيراني يواجه معضلة وجودية: إما أن يصلح نفسه بجراحة داخلية مؤلمة، أو ينتظر سكينا ستأتي من حيث لا يحتسب. والحرس الثوري، بكل ما يملك من تناقضات، قد يكون الجرّاح والسكين في آن واحد.

الخطاب الشعبوي في زمن انهيار النظام 

في لحظات الأزمات المصيرية، يعود النظام الإيراني إلى مخزونه القديم من الشعارات: القومية الجريحة، كالمواجهة المصطنعة مع "الشيطان الأكبر"، واستدعاء روح "المقاومة" كمسكّن لألم داخلي لا يحتمل. لكن الحقيقة تكمن في أن هذا الخطاب - الذي نجح يوما في حشد الجماهير - لم يعد سوى طلاء يبهت أمام واقع مفاده أن إيران "العظيمة"، بتراثها الحضاري وشعبها الأبي، تحوّلت إلى غنيمة في يد نخبة حوّلت الدين إلى أداة للهيمنة، والهيمنة إلى آلة لابتلاع الثروات. ولم تعد "ورقة العدو الخارجي" تنفع لأن الشعب الإيراني، الذي تحمل ويلات الحروب والعقوبات، لم يعد يصدق أن أمريكا أو إسرائيل هما سبب انهيار عملته، أو اختفاء الأدوية، أو تحوّل "الحرس الثوري" إلى إمبراطورية اقتصاديةٍ فاسدة. لقد اكتشف أن "العدو الحقيقي" يكمن في تلك الطبقة التي تتاجر بدماء الشباب في سوريا واليمن، بينما تختلس أرزاقهم في الداخل. والشعب الذي خرج في 2009 و2019 و2022 لم يعد يخدع بمسرحية "المحور المقاوم"، لأنه يرى أن النظام نفسه أصبح "محورا للمهانة". 

القومية الإيرانية: ليست مجرد ورقة في صراع المحاور 

هنا تكمن المفارقة: فالنظام الذي يتغنّى بـ"عظمة إيران" ينسى أن الإيرانيين قوميون بفطرتهم، لكن قوميتهم ليست من النوع الهشّ الذي يبنى على الخطابات. إنها قومية متجذرةٌ في كرامة تاريخية ترفض أن تختزل إلى مجرد ورقة في صراع المحاور. فالإيراني لا يثور فقط حين يجوع، بل حين يشعر أن وطنه يباع في سوق النخاسة السياسية. والنظام أخطأ حين ظنّ أن وعودا مادية أو صفقات دولية ستعيد له الشرعية؛ فجرح الكرامة لا يرقع بالدولارات. 

النهاية المتوقعة: سقوط بدون رصاص؟ 

اليوم، يحاول النظام شراء الوقت عبر تصعيد الخطاب الشعبوي، لكن "مفعول الكلام" انتهى. إيران دخلت مرحلة يشبه فيها النظام طبيبا يعالج مريضًا ميتا بأعشاب مختلفة. والسؤال ليس هل سيسقط؟ بل متى؟ وكيف؟ التاريخ يقول إن الأنظمة التي تتحول إلى "مافيا مغلّفة بأيديولوجيا" تسقط حين يدرك حتى حمايتها أنها لم تعد تجنّبهم السقوط، بل تسرعّه. وربما يأتي السقوط من حيث لا يتوقّعون: من الشارع الذي سئم الأكاذيب، أو من داخل الأجهزة التي أدركت أن الولاء للنظام لم يعد حتى وسيلة للبقاء. الحقيقة المريرة التي يصعب على النخبة الحاكمة في إيران قبولها: أن الجمهورية الإسلامية قد وصلت إلى نهاية مرحلتها الأولى. لم يعد بمقدورها الهروب إلى الأمام، ولم يعد بإمكانها الاعتماد على الخطاب الثوري القديم. لقد استنزفت كل أدوات التبرير، وسقطت كل الحجج. حتى صفقة تخفيف الحصار، لو تحققت، ستكون مجرد تنفس مؤقت، لن يعيد للنظام شرعيته المفقودة منذ زمن بعيد.

إذا كانت هناك فرصة لإعادة بناء الدولة الإيرانية، فهي لا تكمن في إصلاحات سطحية أو تغييرات تكتيكية، بل في إعادة كتابة النص السياسي برأسه وذيله، وفي إعادة النظر في علاقة الدين بالدولة، وفي إعادة توزيع حقيقي للسلطة بعيدا عن المركزية والاستبداد.

النظام الإيراني يقف اليوم عند مفترق طرق حاسم: إما أن يجرؤ على مواجهة مشاكله الداخلية بإصلاح جذري يلامس تطلعات الشعب، أو يواصل انزلاقه نحو الهاوية التي يحفرها بيديه. فالشعب الإيراني، الذي تحمل عقوداً من الوعود المعسولة والقمع الممنهج، لم يعد يثق بخطابات الترقيع أو ينتظر معجزة إنقاذ. لقد أدرك أن وطنه العظيم يستحق أكثر من أن يكون رهينة لمصالح فئة مستفيدة تتاجر بشعارات الثورة والمقاومة بينما تنهب ثروات البلاد. 

الإصلاح المستحيل أم الانهيار المحتوم؟ 

المفارقة تكمن في أن النظام لم يعد يملك رفاهية الوقت. فكل محاولة للإصلاح من الداخل أشبه بمحاولة إطفاء حريق هائل بقطرات ماء. الفساد الذي استشرى في مفاصل الدولة، والانقسامات داخل أجنحة الحكم، وتآكل الشرعية الشعبية، كلها عوامل تجعل من "القفزة الجريئة" نحو الإصلاح ضرباً من المستحيل. وفي المقابل، فإن الاستمرار في سياسة القمع والتشبث بالسلطة لن يؤدي إلا إلى تأجيج السخط الشعبي إلى نقطة الانفجار. 

المشهد الذي لا يستطيع أحد التنبؤ به 

الانهيار قد يكون الخيار الوحيد المتبقي إذا استمر النظام في تجاهل مطالب الشعب. لكن السؤال الأكبر: ما شكل هذا الانهيار؟ هل سيكون انفجارا شعبيا عارما يطيح بكل شيء في طريقه؟ أم انقلابا من داخل المؤسسة الحاكمة نفسها، من أولئك الذين أدركوا أن السفينة تغرق؟ التاريخ يشير إلى أن الأنظمة التي تفقد توازنها بهذا الشكل لا تسقط فحسب، بل تفتح الباب أمام ولادة جديدة قد تكون مؤلمة، لكنها ضرورية. 

إيران اليوم ليست مجرد دولة على حافة التفكك والانهيار، بل هي حضارة عريقة تبحث عن خلاصها من براثن نظام أفقدها بريقها. فالسقوط قد يكون قريبا، لكنه لن يكون النهاية، بل بداية لفصل جديد.. فصل قد يكتب بأيدي الشعب، أو بتحالف غير متوقع بين قوى داخلية أدركت أن بقاءها لم يعد ممكنا إلا بالتغيير. وفي كل الأحوال، فإن إيران التي ستخرج من هذه العاصفة لن تكون إيران التي نعرفها اليوم.

 

مقالات متعلقة