تركي المصطفى
في ساعات الفجر الأولى من 14 يونيو/حزيران، انقطعت فجأة خطوط البيانات عن مركز أبحاث الحرب في طهران، وكأنما شُدَّ ستار من الصمت على مشهد كان يُفترض أن يبقى في الظل. لكن الضربات الإسرائيلية المتلاحقة، التي استهدفت عمق المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، لم تترك مجالا للتكهنات: لقد انتقل الصراع بين البلدين من حرب الوكالة إلى مواجهة مباشرة، قد تُعيد رسم معادلات القوة في المنطقة.
كشفت مصادر عسكرية إسرائيلية أن الغارات الجوية الأخيرة دمرت مختبرات لتطوير الأسلحة النووية في طهران، بالإضافة إلى منشأة إنتاج أجهزة طرد مركزي في غرب العاصمة. لكن الضربة الأكثر إثارة كانت اغتيال العالم النووي منصور عسكري، الرئيس السابق لقسم الأبحاث في منظمة "سبند" الدفاعية، التي تُعتبر الذراع الخفي للبرنامج النووي الإيراني قبل عام 2003.
وفي تحليل يذكرنا بحرب الاستنزاف، لجأت إسرائيل إلى استراتيجية "قطع الأوصال": ضربت وزارة الدفاع الإيرانية المشرفة على "سبند"، ومصنع أجهزة الطرد المركزي، ومواقع كيميائية يُشتبه في استخدامها لتخصيب اليورانيوم. والأخطر، وفقا لتقرير معهد العلوم والأمن الدولي، أن إيران كانت على بعد 3 أسابيع فقط من إنتاج كمية يورانيوم تكفي لـ 9 رؤوس نووية لو تُركت منشأة "فوردو" دون ضرب.
وقد كشف مراسل إذاعة الجيش الإسرائيلي عن وجود مجموعة سرية من العلماء والعسكريين الإيرانيين، شُكلت بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحت اسم "مجموعة الأسلحة". كانت هذه المجموعة، وفقا للتقارير، في مرحلة "التجارب النهائية" على مكونات سلاح نووي، وتتمركز في جامعات طهران ومجمع "بارشين" العسكري. والغارات الإسرائيلية في 13 يونيو/حزيران قضت على أعضائها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كانت هذه المجموعة وراء التسريبات عن قرب إيران من عتبة السلاح النووي؟ ومع كل هذا لم تكتف إسرائيل بضرب المنشآت النووية، بل وسّعت نطاق هجماتها ليشمل:
ـ منصات إطلاق الصواريخ: دمرت طائرات بدون طيار إسرائيلية منصات "حاج قاسم" (مدى 1400 كم)، التي كان يعتقد أنها معدة لضرب إسرائيل.
ـ مستودعات النفط والغاز: ضربت مصفاة "شهر ري" (إحدى أكبر مصافي إيران)، ومستودع "شهران" الذي يخزن وقود طهران لـ 3 أيام، مما تسبب في طوابير خانقة بمحطات الوقود.
ـ الدفاع الجوي: شلت أنظمة الرادار في "بيرانشهر" بعد غارات دقيقة، مما أفقد إيران القدرة على التصدي للطائرات الإسرائيلية.
ردت إيران بإطلاق 80 صاروخا باليستيا على حيفا وتل أبيب، أصاب أحدها مبنى في "بات يام" (4 قتلى و100 جريح). لكن المقارنة مع هجمات أكتوبر/تشرين الأول 2024 تكشف تراجعا كبيرا: في 2024: أطلقت إيران 200 صاروخ في يوم واحد. الآن: لم تتجاوز 250 صاروخا على مدى 3 أيام، رغم ادعاءات قادة الحرس الثوري بأنهم يملكون صواريخ تكفي لهجوم "أكبر بعشر مرات". والضربات الإسرائيلية على مخازن صواريخ "خيبر شيكان" و"قدر" و"فاتح-110" قطعت الإمداد عن الجبهة الإيرانية، مما أجبرها على التباطؤ.
وبالنتيجة فالمشهد اليوم يجسد مفارقة: إيران تملك اليورانيوم المخصب، لكنها فقدت العلماء والبنية التحتية لتسليحه. وإسرائيل تملك التفوق الجوي، لكنها لا تستطيع ضمان تدمير كل المنشآت تحت الأرض. والسيناريو الأكثر ترجيحا هو استمرار حرب الظل، لكن بقواعد جديدة: ضربات إسرائيلية استباقية، ورد إيراني محدود، بينما يعيد الطرفان حساباتهما قبل الدخول في حرب مفتوحة قد لا يريدانها. والتاريخ يذكرنا أن الأسلحة النووية لم تستخدم إلا مرة واحدة، لكن التهديد باستخدامها ظل أقوى أداة للتفاوض. السؤال الآن: هل ستنجح إسرائيل في حرمان إيران من هذه الورقة، أم أن طهران ستعيد ترتيب أوراقها في الظل مرة أخرى؟