تركي المصطفى
في خريطة الشرق الأوسط التي لا تزال تحترق بين الجغرافيا والتاريخ، حيث الحدود تذوب في دماء الهويات، وتتصارع المشاريع الكبرى فوق جثث الشعوب، تطل إيران بخطاب عنيف، ومقاومة مُصاغة، ورؤية استراتيجية مشوَّهة. فهي في ظاهرها ترفع راية التحرر، وفي باطنها تعتمد أدوات التفتيت حيث تخفي خلف ظهرها مشروعا طائفيا يفتت جسد الأمة. وتضرب من بعيد لتوهِم بالقوة، لكن ضرباتها تفضح فراغ الاستراتيجية، وانفصام الخطاب عن الواقع.
ليس ما تقوم به إيران مجرد سياسة إقليمية، بل هو مشروعٌ أيديولوجي تشكل عبر عقود، واستبدل فيه "العدو المشترك" بالخصوم الداخليين، وحوّل "محور المقاومة" إلى شبكة نفوذ طائفية، تُدار من قُم وطهران، ولا تُخفي حتى الآن أنها تمزق الأمة بدل أن تجمع كلمتها.
منذ عام 1979، كان بالإمكان أن تكون الثورة الإيرانية محركا لإعادة تشكيل الوعي الإسلامي بمواجهة الاستعمار والاستبداد. لكن الاختيار لم يكن شعبيا، ولا عربيا، ولا حتى إسلاميا شاملا. اختارت إيران أن تكون قائدة للمذهب وليس للقضية. فأصبح "الولي الفقيه" أعلى سلطة على القرار العربي، وأصبح الخميني زعيما روحيا قبل أن يكون سياسيا، وتحول خطاب الممانعة إلى غطاء لمشاريع التوسع. وهذا المنطق أوقعها في صدام مع الحزام السني، من العراق إلى سوريا إلى اليمن، ففقدت عمقها الشعبي، وأصبحت "المقاومة" في عرفها مجرد غطاء لتوسعها الإمبراطوري.
لم تقف إيران مع الفلسطينيين لأنهم مظلومون، بل لأنهم يمكن أن يكونوا علما يُرفَع باسمها. ولم تدعم الحوثيين لأنهم مقاومون، بل لأنهم أداة تُحقق لها وجودا في جنوب الجزيرة. ولم تتدخل في سوريا والعراق باسم المقاومة، بل باسم الحماية المذهبية لنظام استبدادي، ومشروع إمبراطوري فاشل.
جاء الربيع العربي كفرصة تاريخية لشعوب تبحث عن الكرامة، وعن مستقبل لا يُحكمه السلاح ولا المذهب. لكن إيران، التي ادعت أنها ثورة ضد الاستكبار، وقفت ضد الثورات، ودافعت عن أنظمة القتل والاستبداد. في سوريا، دخلت عبر الحرس الثوري وحزب الله لتُقاتل باسم "المقاومة"، بينما كانت تدافع عن نظامٍ قتل أبناء شعبه. وفي اليمن، حوَّلت صراعا سياسيا إلى حرب طائفية، وجعلت من الحوثيين أدوات بيد مشروعها الإقليمي. وفي العراق، كانت شريكا استراتيجيا في بناء مليشيات تدمّر الدولة بدل أن تحميها. وبذلك وقفت طهران في خندق الأنظمة المستبدة، وساهمت في سحق الشعوب في العراق وسوريا واليمن بأدوات طائفية.
لا يمكن فصل التدخل الإيراني في سوريا عن حسابات المشروع الإقليمي، ولا عن مصالح النظام الإيراني ذاته. لم يكن الدفاع عن دمشق دفاعا عن القدس، بل كان دفاعا عن طريق الوصول إلى المتوسط، وعن نقطة استراتيجية في خريطة النفوذ. وسقط مع ذلك آخر غطاء لـ "الممانعة": فسلاح المقاومة انقلب على الشعب السوري، وحوّلت إيران نفسها من طرف في الصراع مع الكيان الصهيوني إلى طرف في الحرب السورية. وسقطت معه آخر ورقة توت في سردية "الممانعة". حيث، تحوّلت طهران من رمز للتصدي للإمبريالية إلى شريك في جرائم الحرب.
حتى في قضية فلسطين، التي لا تزال الرمز الأكبر للمقاومة العربية، فإن الدعم الإيراني يبقى معلقا بين الخطاب العاطفي والممارسة السياسية. فالشعارات التي تُرفع في طهران لا تترجم إلى دعم حقيقي أو ملموس. لم تكن إيران يوما مصدر سلاح حاسم لفصائل غزة، كما لم تكن يوما الضامن السياسي الوحيد للفلسطينيين.
من هنا فالهجوم الصاروخي الإيراني المباشر في أبريل 2024، إن كان رسالة، فقد كانت رسالة مشوشة. فبينما حاولت طهران أن تستعيد زمام المبادرة، كشفت الضربة عن هشاشة البنية العسكرية، وعن غياب الاستراتيجية. فـ "إسرائيل" تمتلك التفوق العسكري، والدعم الغربي، والقدرة على الردع. وإيران تملك الاقتصاد المنهار، والمجتمع المنقسم، والقيادة التي تُقاتل من بعيد دون أن تجرؤ على المواجهة الحاسمة.
وأخيرا فإن التاريخ لا يُكتب بالخطابات ولا بالشعارات، بل بالمواقف والنتائج. وإيران، رغم كل ما تقوله، لم تكن يوما قائدة للمشروع التحرري للأمة العربية والإسلامية، بل كانت بديلا عنها. فيما المقاومة الحقيقية لا تُبنى بميليشيات طائفية، ولا بسياسات تنقض نفسها، ولا بخطاب يتنافى مع الواقع. هي تُبنى بإرادة الشعوب، وبمشروع وطني وأخلاقي، يضع الإنسان في مركز المعركة، لا المذهب.