تركي المصطفى
في واحدة من اللحظات الحاسمة التي تشكل مسار التاريخ المعاصر، يمرّ الشرق الأوسط بتحولات عميقة تكمن خلفها قوى لا تُرى بالعين المجردة، وتتقاطع فيها المصالح والحسابات الاستراتيجية على طاولة لم تعد تحتمل التسويف أو التردد. وإيران اليوم تتعرض لنوع من الامتحان الذي لم تعرفه منذ قيام الجمهورية الإسلامية، فما يجري ليس مجرد ضربات استباقية هنا وهناك، بل هو بداية عملية تنظيف استراتيجي شاملة تمتد من طهران إلى صنعاء، مروراً ببغداد ودمشق وبيروت.
الهدف واضح: إنهاء النموذج الإيراني القائم على الهلال الشيعي والقوة المسلحة غير النظامية (الميليشيات)، واستبداله بترتيبات جديدة تستعيد التوازنات الإقليمية التي اختلت بعد الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣. وهذه المرة، لا توجد نية لترك الأمور تعود إلى ما كانت عليه، بل هناك مشروع جيوسياسي كبير ترسم معالمه إسرائيل بدعم أمريكي مباشر، وربما بتمويل إقليمي غير معلن.
إسرائيل، وبعد سنوات من التلويح والتهديد، اتخذت قرارها باللاعودة. ولم يعد الحديث عن "خطوط حمراء" أو "رسائل سياسية"، بل دخول في سيناريوهات عسكرية مفتوحة تتطلب وجود غطاء دولي ودعم لوجستي تقني متقدم، وهي تدرك أن الحرب الحقيقية لن تكون كاملة دون مشاركة أمريكية مباشرة، ولذلك تعمل بكل ما أوتيت من قوة على جر واشنطن إلى المعمعة تحت شعار حماية الخليج ومنشآته النفطية.
العملية العسكرية بدأت في العمق الإيراني، وشملت ضربات دقيقة لغرف القيادة والسيطرة، واغتيالات مركزة لعلماء الذرة وقادة الحرس الثوري، بل وحتى اختراقات استخبارية داخل الأحياء السكنية بطهران نفسها، فالمسيرات التي انطلقت من فوق العربات المدنية في شوارع العاصمة الإيرانية كشفت عن مستوى غير مسبوق من الاختراق الأمني الأرضي، وهو ما يعكس تعاونا عميقا بين الموساد والـ CIA، وبعض الجهات الإقليمية التي يبدو أنها وضعت يدها على الطاولة.
الخامنئي، الذي كان هدفا أوليا، نجا بأعجوبة من ضربة محققة بفضل معلومات استخبارية وصلته قبل حدوثها بساعات، لكنه الآن في حالة اختفاء واضحة تعكس مدى الصدمة التي أصابت القيادة الإيرانية، أما بعد رحيل الرجل الثاني، إسماعيل قاآني في الضربات الإسرائيلية، فلا يبدو أن أحدا قادر على إعادة ترتيب البيت الداخلي في ظل انهيار البنية الدفاعية والاستراتيجية للمعسكر الإيراني.
الولايات المتحدة، رغم ترددها التقليدي، بدأت تظهر بوادر موافقة على دخول اللعبة بشكل رسمي، وقد يكون هذا نتيجة الضغوط الإسرائيلية المتزايدة، أو بسبب رؤية استراتيجية جديدة ترى أن الوقت قد حان لإعادة ضبط موازين القوى في المنطقة. ومع هذا الدخول، فإن منطقة الخليج ستكون على المحك، وسيناريوهات إغلاق مضيق هرمز، وتدمير منشآت نفطية، وضربات متبادلة بين الولايات المتحدة وإيران ليست بعيدة.
أما في سوريا، فالوضع أكثر تعقيداً. فالحكومة السورية تتعامل بمسؤولية مع الخطر القادم من الحشد الشعبي العراقي، الذي قد يتحرك باتجاه دير الزور والتنف إذا تصاعدت الحرب.
الدرس الذي يجب أن يؤخذ من كل ذلك هو أن الإسلام السياسي، سواء السنّي منه أو الشيعي، دخل مرحلة الخريف الأخير. فنموذج الدولة الموازية، والميليشيا المسلحة، والهيمنة عبر وكلاء، لم يعد صالحا في عالم يتغير بسرعة، ويتطلب دولا قوية ومؤسسات حقيقية، وليس شبكات مصالح ومصالح شخصية.
إسرائيل، إن لم تستطع تغيير النظام في إيران، فهي مستعدة لتدمير قدراتها النووية والصاروخية لعقود قادمة، حتى لو احتاج الأمر إلى استخدام أسلحة لم تُستخدم من قبل، وعمليات إنزال خاصة حول مواقع حساسة مثل فوردو. وواشنطن، من وراء الستار، تدير المشهد بعقلية "الحرب الذكية" التي تقلل من الخسائر البشرية، وتعظم من التأثير الاستراتيجي.
وبالتالي فإن الشرق الأوسط يتجه نحو إعادة تشكيل، والجميع سيكونون ضمن الخريطة الجديدة، سواء أحبوا ذلك أم كرهوا. أما من يراهنون على استمرار الحال كما هي، فهم يعيشون في وهم لن يطول.