بحث

الحملة الجوية الإسرائيلية: محاولة لـ "إزالة الخطر النووي" الإيراني أم فاتحة لمعركة استراتيجية أوسع؟


تركي المصطفى 
في الثاني عشر من يونيو/حزيران، شنّت إسرائيل حملة جوية استهدفت مواقع متعددة داخل العمق الإيراني، كان من بينها المنشآت النووية في نطنز وأصفهان وفوردو، بالإضافة إلى قواعد عسكرية استراتيجية، ومعاهد بحثية مرتبطة بالبرنامج النووي، بل واستهدفت أيضا كبار القادة العسكريين والعلميين. وجاء هذا الهجوم في توقيت دقيق، حيث كانت المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران في حالة تعثر، وحيث أعطى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهلة لإيران قبل أن يُمهلَ لها بعد انتهائها. ومن هنا، يبدو أن الضربة الإسرائيلية لم تكن مجرد رد فعل آني، بل كانت جزءا من استراتيجية أوسع تهدف إلى "إضعاف وتدمير وإزالة الخطر" الذي تمثله البرنامج النووي الإيراني، كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
طبيعة الحملة الجوية الإسرائيلية ودوافعها
تشير المعلومات إلى أن الغارات الجوية التي بدأت يومي 12 و13 يونيو لم تكن سوى الدفعة الأولى في حملة أوسع تمتد لأسابيع، وقد أشار إليها مسؤولون إسرائيليون كثر، مما يدل على أنها لم تكن ضربة واحدة، وإنما خطوة ضمن خطة مدروسة. ويبدو أن الهدف الرئيسي منها لم يكن فقط تدمير بعض المنشآت، بل إحداث تأثيرات عسكرية متعددة تضعف قدرة إيران على الرد السريع، وتُحدّ من فعالية منظومة الدفاع الجوي لديها، وتعطل مركز القيادة والسيطرة، وبالتالي تخلق مساحة من الوقت والفرص أمام إسرائيل لتوسيع نطاق عملياتها إذا اقتضى الأمر. وقد استهدفت الطائرات الإسرائيلية رادارات الإنذار المبكر في منطقة همدان، وضربت مواقع الصواريخ الباليستية في كرمانشاه، وشنت غارات على قاعدة أرتش الجوية في تبريز، وغيرها من الأهداف العسكرية الحيوية. كما استهدفت العلماء النوويين في جامعة الشهيد بهشتي، وهي المؤسسة التي تلعب دورا محوريا في البحث النووي الإيراني، والتي فرضت عليها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات مشددة.
الأهداف النووية: نقطة اللاعودة أم محاولة للتأخير؟
أما فيما يتعلق بالبنية التحتية النووية، فقد استهدفت الغارات مجمع نطنز لتخصيب اليورانيوم، حيث أكدت صور الأقمار الصناعية تدمير محطة الوقود التجريبية التي تحتوي على أكثر من 1700 جهاز طرد مركزي متقدم من نوعي IR-4 وIR-6، وهي أجهزة يمكن استخدامها في تخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60%. كما استُهدف مركز أصفهان للتكنولوجيا النووية، بما يتضمن منشآت لإنتاج اليورانيوم المعدني وإعادة تحويله إلى وقود نووي.
ورغم النفي الإيراني الأولي، فإن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية أكدت حدوث تلف في الموقع، وإن لم تسجّل مستويات إشعاع عالية. إلا أن تصريحات مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى أدت إلى تأكيد أن هذه الضربات ليست الأخيرة، وأن هناك المزيد قادم، وهو ما يشير إلى أن الهدف ليس تدمير المواقع فقط، بل تعطيل التقدم النووي الإيراني لسنوات قادمة.
القتل المستهدف: العلماء والقادة
لم تقف الحملة عند الحدود المادية، بل تعدتها إلى اغتيالات موجهة ضد العلماء والقادة العسكريين. فقد تم قتل خمسة من أبرز العلماء النوويين الإيرانيين، من بينهم فريدون عباسي، رئيس سابق لمنظمة الطاقة الذرية، وعبد الحميد منوشهر، عميد كلية الطاقة النووية في جامعة الشهيد بهشتي، وأحمد رضا ذوالفقاري، أستاذ الهندسة النووية. كما تواردت تقارير عن مقتل العميد إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، خلفا لقاسم سليماني، والذي كان يُعتبر العمود الفقري لشبكة العلاقات الإقليمية لإيران.
ولقد عملت إيران سريعا على سد الثغرات، حيث عيّن المرشد الأعلى علي خامنئي خلفاء لبعض القادة الذين سقطوا، من بينهم تعيين عبد الرحيم موسوي، القائد السابق للجيش الإيراني، كرئيس لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، وهو أول ضابط من الجيش وليس من الحرس الثوري يشغل هذا المنصب. كما تم ترقية محمد باك بور ليصبح القائد العام للحرس الثوري، وهو شخصية معروفة بتجربته في سوريا وقمع الاحتجاجات الداخلية.
الرد الإيراني: بين التصعيد والانضباط
بعد نحو ثماني عشرة ساعة من بدء الغارات، شنّت إيران هجوما بصواريخ باليستية أقل من 100 صاروخ، وفقا لتقديرات إسرائيلية، استهدفت مواقع عسكرية وقواعد جوية. لكن الدفاعات الجوية الإسرائيلية، بدعم من أنظمة ثاد الأمريكية، اعترضت معظم تلك الصواريخ، واقتصرت الأضرار على سقوط بعض الشظايا في تل أبيب، وإصابة نحو 65 شخصا، وفقا للسلطات الإسرائيلية.
وقد سمّى الحرس الثوري الإيراني العملية بـ "الوعد الصادق 3"، وهو الثالث من نوعه، بعد عمليتين سابقتين في أبريل وأكتوبر 2024. ويلاحظ أن الرد الإيراني لم يخرج عن إطار التصعيد المحدود، ولم ينجح في تحقيق تأثير استراتيجي يُذكر، مما يعكس الحدود الواقعية لقدرة إيران على الرد في ظل التدهور الذي طرأ على بنية قوتها العسكرية.
موقف محور "المقاومة": التصريحات مقابل التحرك
أما بالنسبة لشركاء إيران في محور المقاومة، فقد أصدرت بعض الجهات بيانات تدين الضربات، لكن لم يتجاوز ذلك حدود الكلمات. فحماس أدانت الهجوم، ودعت إلى "موقف موحد"، بينما صمت حزب الله، واكتفى بإصدار بيان تضامني، مؤكدا أنه لن يشن أي عملية عسكرية من جانب واحد دعما لإيران. أما الحوثيون، فكانوا الوحيدون الذين استهدفوا إسرائيل بعد الضربات، حيث أطلقوا صاروخا من اليمن، وهو ما يُظهر أنهم لا يزالون عنصرا فاعلا في هذا المحور، رغم أن حجم تأثيرهم يبقى محدودا.
الموقف الأمريكي: دعم غير مباشر وتحذيرات صريحة
من جانبه، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الهجمات على إيران ستكون "أكثر وحشية" إذا لم تلتزم طهران بشروط الاتفاق النووي، وأشار إلى أن الضربة الإسرائيلية جاءت بعد انتهاء مهلة الستين يوما التي أعطاها لإيران. وفي الوقت نفسه، حذر ترامب من أن الولايات المتحدة ستدافع عن نفسها وعن إسرائيل من أي هجوم انتقامي، وهو ما دفع البحرية الأمريكية إلى إرسال المدمرة "توماس هودنر" إلى شرق البحر المتوسط لتعزيز الدرع الصاروخي الإسرائيلي. وقد استدعت إيران السفير السويسري لديها – نيابة عن السفير الأمريكي – لتحذير الولايات المتحدة من أنها ستحملها المسؤولية عن التعاون مع إسرائيل، لكن يبدو أن الإدارة الأمريكية اختارت البقاء في إطار الدعم السياسي واللوجستي، دون التورط المباشر في العمليات العسكرية.
الخلاصة: حرب طويلة أم ضربة استباقية؟
لا تزال الحملة الإسرائيلية في بدايتها، وتشير التصريحات الإسرائيلية إلى أنها قد تمتد لأسابيع، وأن الهدف منها ليس فقط تدمير المنشآت، بل إجبار إيران على التفاوض أو شل حركتها تماما. وسواء نجحت إسرائيل في تحقيق أهدافها أم لا، فإن الحسابات الاستراتيجية في المنطقة قد تغيرت الآن، وما بين تراجع محور "المقاومة"، وتصاعد الضغوط على إيران، وتعاظم الدعم الأمريكي لإسرائيل، يبدو أننا أمام بداية مرحلة جديدة من التنافس الإقليمي والدولي، حيث لم يعد الحديث عن النووي الإيراني مجرد قضية دبلوماسية، بل أصبح مسألة وجودية يُقاتل من أجلها على الأرض.

 

مقالات متعلقة