بحث

روسيا تلعب (X O) مع الولايات المتحدة

foreignpolicy – ترجمة بلدي نيوز

من بين العديد من العقبات التي تعترض جهود الغرب لوقف المجازر الدامية في سوريا وتخفيف أزمة اللاجئين، وربما الأكبر والأصعب للتغلب عليها هي الانفصال الضخم في عمق واتساع الصراع الملتزم ما بين كل من الولايات المتحدة وروسيا.
فهنالك سر بالنسبة لمستوى الاهتمام الأمريكي الضئيل، فرغم ما يشاع، سورية بالنسبة لإدارة أوباما ليست سوى طارئ مزعج أجبرت البيت الأبيض بظروف معينة، وبدون اتفاق على التعامل مع الأجندة الاستراتيجية الرئيسية لفلاديمير بوتين، حيث يعتبر ذلك الجزء المهم من مشروعه الأيديولوجي والجيوسياسي على المدى الطويل، والمتجذر في معتقداته المهمة الراسخة في شخصيته والتي قد فرضها على نفسه، بكونها من الضروريات السياسية الأساسية لبقاء نظامه.
إن الرئيس الروسي ليس ذلك الرجل سهل القراءة، فقد تم تدريسه بنجاح في مدرسة الكي جي بي للاستخبارات السوفييتية ومعهد الراية الحمراء يوري أندروبوف (أكاديمية الاستخبارات الخارجية سابقا)، ولكن وبعد 16 عاماً من السياسات، هنالك على الأقل اثنان من المبادئ المترابطة في عقيدة بوتين التي يمكننا أن نكون على يقين شبه تام منها:
1. أن نهاية الحرب الباردة تعادل بالنسبة لروسيا معاهدة فرساي بالنسبة لألمانيا- بكونها مصدراً من الذل والبؤس الذي لا نهاية له، بزوال الاتحاد السوفياتي، وبعبارة بوتين، كانت "أكبر مأساة جيوسياسية في القرن ال20".
2. إن جدول الأعمال الاستراتيجي الشامل لأي زعيم روسي وطني حقاً (وليس أحمق أو خائن أو كليهما، كما يرى بوتين كلاً من ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين) يسعى لاسترداد واستعادة حالة الأصول السياسية والاقتصادية والجيو-استراتيجية التي خسرها الاتحاد السوفياتي السابق.

وهكذا، فليس من المستغرب، وبعد عودته إلى الكرملين في عام 2012، المكان الذي شغل من قبل بواسطة مساعده السابق ديمتري ميدفيديف، بأن تحولت أنظار بوتين بشدة لاستعادة الأصول الجيوسياسية، وهذا هو الجزء الأساسي لعقيدة بوتين في السياسة الخارجية.
لقد كانت هنالك أيضا ضرورة سياسية داخلية قوية لهذا المحور من السياسة الخارجية النشطة، يفرضها مناخ الاستثمار المنحدر في البلاد، والنمو الاقتصادي المتباطئ حتى مع ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات تاريخية، فإن هذا التراجع الاقتصادي داخل وخارج الحكومة يحذر من أن الاقتصاد الروسي لن يساهم في نمو بنسبة 8 إلى 10 في المئة من الدخل الحقيقي، كما كان بين عامي 2000 و 2008، ليقوم بتأمين شعبية بوتين الفلكية، وعلى حد قول صديق بوتين الشخصي، النائب السابق لرئيس مجلس الوزراء ووزير المالية ألكسي كودرين بأن انخفاض الاقتصاد قد أصاب "الجدار المؤسسي للدولة".
وعلى الرغم من أن روسيا قد سبق أن سجلت أعلى إيرادات سنوية للنفط في تاريخها ما بين عامي 2010 و 2014، فقد رفعت تلك الإيرادات بشكل ضئيل جداً من الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، بحيث كثفت هروب رؤوس الأموال، في حين وصل الاستثمار إلى طريق مسدود، وكشفت استطلاعات الرأي العام نظرة الشعب الدائمة للسلطات في كل مستوياتها على أنها فاسدة للغاية، قاسية القلب، وغير كفؤة، بينما كانت الاستطلاعات الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لبوتين، هي الانخفاض الكبير في شعبيته، والتي كانت ولا تزال الأساس لشرعية نظامه، إذ انخفضت شعبيته بنسبة الثلث تقريبا ما بين عامي 2008 و 2011، ودعا كودرين لتغيير "النموذج الاقتصادي" للبلاد، فيما أصبح فيما بعد كابوس بوتين: فإن جهود البيريسترويكا غورباتشوف في التحرير الاقتصادي، أدت إلى أزمة سياسية لا يمكن السيطرة عليها، وانهيار للنظام.

ويبدو بوتين غير راغب بإجراء أي إصلاحات ليبرالية مؤسسية، حيث قام باتخاذ القرار الذي لربما كان الأكثر مصيرية في حياته السياسية: بدأ بتغيير أسسه، وبالتالي دعم النظام والشرعية من عواقب الهبوط الاقتصادي والنمو المطرد من خلال الدخول إلى ما يمكن أن يطلق عليه التعبئة الوطنية.
وترتكز سياسته الجديدة على اثنتين من الدعايات المتشابكة الملتوية الرواية- أولاً: بأن الغرب - وقبل كل شيء الولايات المتحدة- غير سعيدة من أن روسيا بدأت تقوم الآن بدل أن تجثو على ركبتيها، بينما أعلنت الحرب على موسكو من أجل الحفاظ على سيطرتها على الشؤون العالمية.

ثانياً : على الرغم من التهديد الكبير من كل جانب للأعداء الحقودين، فإن روسيا ليس لديها ما تخشاه طالما أن بوتين في سدة الحكم: إذ أنه لن يقوم فقط بحماية الوطن، بل صرّح بأنه سيصلح من وضع الاتحاد السوفياتي ليصبح ذو مكانة تحترم لمرة أخرى، وذلك على شاشات التلفزيون الوطني، حيث الغالبية العظمى من الروس يحصلون على أخبارهم، فقد أصبحت السياسة الخارجية لبوتين مشهداً من المبادرات، والنجاحات الرائعة، بما في ذلك ضم شبه جزيرة القرم، والحرب الهجينة في أوكرانيا.
إن الحماسة الوطنية تلك وعلى مرأى من الوطن الأم والمطوقة بالانتصارات بطريقة ما أو بأخرى، لربما تشكل وبقوة ما صورة في الأحداث العالمية في حين تمثل ثقلاً موازي أخلاقياً واستراتيجياً للولايات المتحدة، وتحجب عن الملايين من الروس الواقع الاقتصادي المزري والمتباطئ على نحو متزايد وتقمع المعارضة، وكما قال الشاعر الروسي العظيم ميخائيل ليرمونتوف في قصيدة "إسماعيل بيه"، "نعم، أنا عبد لكنني عبد لسيد الكون!"
لقد أُرهِقَ "النمر" بوتين من شدة الحماس الوطني، مما جعله يهرول في قيادته، المشكلة مع هذا النمط من السياسات والإعلام، هو أن "النمر" يتطلب المزيد من اللحوم، وكلما كان أكثر دموية كان ذلك أفضل.
وهكذا وعندما بدأت الحرب في أوكرانيا تفقد الكثير من "لحم" دعايتها، تحولت أنظار بوتين نحو سوريا، وفي 20 أكتوبر 2015، في الكرملين وعلى شاشة التلفزيون الوطني، قام بوتين بمصافحة الديكتاتور السوري بشار الأسد- وبين عشية وضحاها استبدلت روسيا، أوكرانيا بسوريا، بينما أصبحت سوريا هي ساحة المعركة الرئيسية لروسيا.
الأسد، وكما وصفه مراسل نيويورك تايمز في موسكو، كان "مُتَأسِّداً" على التلفزيون الروسي، إذ أن نجاة عميل الاتحاد السوفيتي القديم، من تحت النيران التي تفتك به من قبل المعارضة المؤيدة للديمقراطية، أصبح الآن واجباً سياسياً داخلياً لروسيا، ونظراً لهذه المخاطر التي تضيق الخناق على روسيا داخلياً، فإنه ليس من المستغرب بأن وجود روسيا في سوريا باب مفتوح، قام بتخصيص العديد من الموارد اللازمة لتحقيق أهدافها.
وبالتالي، ما كان يسمى بانسحاب روسيا من سوريا ليس سوى دوران صيانة وتعديل للقوات، وعلى حد قول الرئيس السابق للقوات الجوية الروسية الجنرال فلاديمير ميخائيلوف، "نحن لن نقوم بسحب كل قواتنا من سوريا، ولكن فقط تلك التي لا نحتاج إليها، لا سيما بالنسبة للحالة الراهنة للعملية" وكما قال بوتين، يمكن إرجاع هؤلاء الموظفين والمعدات العسكرية التي تم إخراجها من سوريا، "في غضون ساعات"،  بينما تواصل روسيا الآن تزويد الجيش الأسدي بالدعم الجوي والضربات الدقيقة الوثيقة، بما في ذلك صواريخ اسكندر التكتيكية، بدعم من المدفعية، والاستخبارات.
وفي هذا السياق يجب أن ننظر إلى عقم تام لدعوات الرئيس أوباما لبوتين ورحلات وزير الخارجية جون كيري إلى موسكو بحثاً عن "أرضية مشتركة"، إذ وبالرغم من كونها أسوأ من خاوية، فقد لعبت دوراً إعلامياً كبيرً إلى حد الغثيان في التلفزيون الرسمي الروسي، كل مكالمة، كل رنة من كؤوس الشمبانيا مع أوباما في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كل زيارة يقوم بها كيري، تقوم بتعزيز الشرعية الداخلية لنظام بوتين، وإن كان قادة الولايات المتحدة، والذين هم في نهاية المطاف الأمة الوحيدة التي تعول على الروس (تماماً كما كان الحال في عهد الاتحاد السوفيتي) يدعونهم، ويوجهون النداءات إليهم، ويأتون لرؤيتهم، ويتوسلون إليهم، فمن المؤكد بأنهم يؤكدون بأنها الأمة الأهم في العالم، إذ "لا يهم ما يتحدث عنه كل من بوتين وأوباما في لقاءاتهم، ولا عن ماذا، ولا النتيجة بحد ذاتها"، فقد كتب محلل سياسي روسي مشهور "الأهم من ذلك كله، هو أنهم وبأنفسهم يقومون بدعوة ومشاورة ومحاولة التواصل مع بوتين."
إن وسائل الإعلام الروسية، قامت بالاحتفال "بشكر" كيري لبوتين لـ"تميزه" وبكونه موجود، كما كان قد صرح في مؤتمر صحفي له عقب زيارته إلى مقر إقامة الرئيس الروسي في البحر الأسود في مدينة سوتشي في العام الماضي، بينما قام التلفزيون الروسي بإعادة عرض مشهد يظهر فيه الرئيس الروسي بوتين وهو يضرب كيري على كتفه منادياً لوزير الخارجية الأمريكي بكلمة "تي" - وهي الكلمة الروسية غير الرسمية لـ"أنتم"، والتي تدل على عدم الاحترام أو الازدراء، حيث تستخدم فقط لمناداة الأصدقاء المقربين والأطفال.
ثم هنالك تلك المهزلة الغريبة لاجتماع فرقة عمل "وقف إطلاق النار" والتابعة للمجموعة الدولية لدعم سوريا، الاجتماع الذي عقد مؤخرا في فيينا، في أغسطس، عندما جلس وزراء الخارجية الدوليين مكتوفي الأيدي حول معضلة هجمات طائرات الأسد على المدن السورية وعدم القدرة على إيصال المساعدات الإنسانية، بينما كان طوال هذا الوقت، يجلس بجانب كيري الرئيس المشارك للمجموعة، وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والذي يستطيع وقف المذبحة مباشرة بمكالمة هاتفية منه ولمدة 30 ثانية فقط مع بشار الأسد، عوضاً من ذلك، تقف الطائرات الروسية اليوم، جنباً إلى جنب مع القاذفات السورية، مقدمة الدعم والحماية بل ومستهدفة الأحياء المدنية، لتدمير أكبر المدن السورية، حلب، لتصبح "ستالينغراد" من الركام، تماما كما فعل بوتين في العاصمة الشيشانية غروزني في 1999-2000.
في سوريا، إن الغرب يريد السلام، ولكن بوتين يحتاج للنصر، وهكذا سيبدو الأمر في النهاية: ستقوم روسيا بإهلاك أو إجبار المعارضة السورية العلمانية الموالية للغرب على نزع سلاحها، كجزء من "عملية السلام" ما بين الولايات المتحدة وروسيا، بينما سيواجه الغرب حينها خياراً بغيضاً لا مفر عنه، ما بين نظام الأسد ومزيج من "تنظيم داعش" وجبهة النصرة، التابعة لتنظيم القاعدة، وهكذا سيتمكن نظام الأسد من البقاء على قيد الحياة، وفي الوقت نفسه ستتم استعادة الموقف الروسي بكون الاتحاد السوفييتي يعتبر لاعبا دوليا أساسياً لا غنى عنه، والممثل الدولي الرئيسي للشرق الأوسط.

إننا لا نخطئ عندما نقول بأن بوتين يود البقاء والقتال في سوريا، حتى يتم تحقيق هذه الأهداف، هذا ما لم تتجاوز تكاليف الحملة الروسية ما قد يستفاد منها، وهذا من غير المرجح الآن نظرا لآراء إدارة أوباما حول التدخل الروسي، كما صرح كيري في نهاية مارس من هذا العام "نحن لا نرى أي تهديد من أي نوع بحقيقة أن روسيا لديها بعض الأساسات الإضافية في سوريا، حيث أننا لا نريد بناء قاعدة، ولا نبحث عن أي نوع من الوجود لفترة طويلة".
بالنسبة لبوتين، فإن الحرب في سوريا منخفضة المخاطر، ومرتفعة المكافآت، إذ أن هنالك فرصة ضئيلة جداً أن تكون لدى واشنطن أي قدرة أو رغبة لقلب الموازين في الاتجاه الآخر، بينما تبدو أوروبا بأنها بالفعل تتراجع عن تلك العقوبات التي فرضتها على روسيا في أعقاب ضمها لشبه جزيرة القرم والحرب بالوكالة في أوكرانيا.
إن القول بأن روسيا الآن تقوم بلعب الشطرنج في سوريا، بينما تقوم الولايات المتحدة بلعب الداما سيكون مبالغة في تقدير صارخ للالتزام الفكري والأخلاقي، والعسكري، إن لعبة " X-O " هي الأكثر قرابة من الصحة.

مقالات متعلقة