بحث

السويداء بين استبدادين: غياب النخب وانزياح الزعامة

تركي المصطفى

في مشهد يعكس تعقيدات المرحلة السورية، تتصاعد أزمة محافظة السويداء على عدة مستويات، تبدو فيها المحافظة أسيرة معادلة صعبة: غياب النخب السياسية المستقلة في الداخل، وانزياح الزعامة التاريخية التي لم تُنتج بديلا منذ عقود.

تكمن مفارقة السويداء الأساسية في أنها أنجبت أحد أبرز الرموز الوطنية السورية، سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى (1925-1927)، ثم عجزت عن إنتاج زعيم من بعده يجمع بين الحس المحلي والبعد الوطني. ولم تكن زعامة الأطرش طائفية ضيقة، بل كانت زعامة وطنية بامتياز؛ قاد ثورة انطلقت من جبل العرب لتمتد إلى معظم الأراضي السورية، وحقق انتصارات عسكرية بارزة ضد الانتداب الفرنسي، ووحّد السوريين من مختلف الطوائف تحت هدف الاستقلال، وهذا البعد القومي الجامع، إلى جانب شجاعته العسكرية واستقامته الشخصية، هو ما صنع منه "رمزا" تتجاوز مكانته حدود الطائفة والمنطقة، ويظل مرجعية تاريخية لا تُضاهى.

هنا يبرز سؤال محوري: لماذا استطاع دروز لبنان إنتاج زعامات سياسية فاعلة ومتواصلة مثل وليد جنبلاط، بينما غاب هذا المشهد في السويداء؟ الإجابة تكمن في عاملين:

أولا، الاستبداد المركزي: عاش دروز سوريا، كباقي مكونات الشعب السوري، تحت نظام مركزي شمولي قوض لأعوام قدرة المجتمع على بناء تقاليد سياسية مستقلة، بينما تمتع إخوتهم في لبنان بمساحة أوسع من الحريات في ظل نظام طائفي-سياسي متنوع، أتاح لهم تطوير مهارات السياسة والتحالفات وإنتاج قيادات بارزة ومؤثرة مثل عائلة جنبلاط وأرسلان، واقتراب بعض شخصيات درزية من أصول متواضعة للمنافسة على الزعامة.

ثانيا، النخب المغتربة أو المغيبة: نتيجة لهذا المناخ، إما أن النخب الفكرية والسياسية في السويداء هاجرت، أو أنها غُيبت قسرا، أو أنها آثرت الصمت خوفا أو يأسا، وهذا الفراغ هو الذي سمح لاحقا بهيمنة الشيخ الهجري كصوت واحد بلا منافس. 

في ظل الفراغ السياسي الذي تعيشه محافظة السويداء، برزت ثلاثة وجوه رئيسية تتصارع على تمثيل إرادة المجتمع وتشكيل مستقبله، مما يكسر فكرة الزعامة الأحادية التي سادت لفترة.

يأتي في المقدمة حكمت الهجري الذي يمثل مرجعية دينية تقليدية بصفته "شيخ عقل" الطائفة، إلى جانب قيادته السياسية الفعلية، يتميز موقفه برفض واضح لسيطرة الحكومة السورية، ويسعى إلى تحقيق إدارة ذاتية للمحافظة، مع التركيز على مطالبته برفع ما يصفه بـ "الحصار" المفروض عليها، واللجوء إلى طلب حماية دولية لضمان تحقيق هذه الأهداف.

في الجهة المقابلة، يبرز ليث البلعوس كزعيم مجتمعي مسلح يقود جماعة "رجال الكرامة". يعتمد مشروعه السياسي على التعاون والدعم الكامل للحكومة السورية، مع التركيز على الحفاظ على أمن المنطقة ووحدتها ضمن إطار الدولة السورية، ورفض أي شكل من أشكال التدخل الخارجي في شؤون المحافظة.

أما سليمان عبد الباقي، قائد "أحرار جبل العرب"، فيمثل نموذجا للزعامة المجتمعية التي تحظى باعتراف رسمي، حيث تم تعيينه مديرا لأمن السويداء. يرتكز مشروعه السياسي على تعزيز الاستقرار الأمني، ورفض أي دعوات للتقسيم، مع التأكيد المستمر على الانتماء الوطني السوري والعمل ضمن الأطر القانونية للدولة.

تشكل هذه التحالفات والمواقف المتباينة مشهدا سياسيا معقدا في السويداء، حيث تتنافس هذه القوى الثلاث على قيادة المجتمع في مرحلة بالغة الحساسية، مما يعكس تعددية في التمثيل السياسي لكن في إطار يفتقر إلى الوحدة والرؤية المشتركة لمستقبل المحافظة. 

والآن نعود إلى قلب الأزمة التي تصاعدت في أكتوبر/تشرين الأول. لم يكن نقص الوقود والغذاء والدواء مجرد أزمة معيشية، بل كان القطرة التي أفاضت الكأس، لقد تحولت ندرة الموارد إلى ساحة صراع داخلي، تجلت في اشتباكات مسلحة، حيث باتت عوائد التهريب والمساعدات سلعة سياسية ثمينة.

وفي خضم هذه العاصفة، برزت حرب روايات تذكرنا بمشاهد مماثلة في تاريخ المنطقة. فالهجري يتهم الحكومة السورية بـ "الحصار المتعمد"، بينما محافظ السويداء يرد باللوم على "اللجنة القانونية العليا" – الهيئة الفعلية الحاكمة في المحافظة – ويتهمها بعرقلة توزيع المساعدات.

دمشق، من جهتها، تفضل خيار تقديم الخدمات والدعم الاقتصادي، كما في حملة "السويداء جزء منا"، على خيار المواجهة العسكرية المباشرة، لكن هذا الرهان قد لا يجدي إذا لم يعالج جذور المظالم التاريخية، وأهمها إفقار المجتمع سياسيا وتهميش نخبه.

وبالتالي فالسويداء تواجه اليوم تحديا وجوديا: كيف تتحول الأزمة إلى فرصة لبناء مستقبل يحفظ الكرامة والأمن معا؟ الإجابة تكمن في قدرتها على تجاوز "الصوت الواحد" واستعادة تعدديتها، وتحرير إرادتها من الاستبدادين، المركزي والمحلي، والعودة إلى إرثها الوطني الذي أسسه سلطان الأطرش، ليس بتقديس الماضي، بل بإنتاج زعامات جديدة قادرة على قيادتها نحو غدٍ أفضل.

مقالات متعلقة