تركي المصطفى
في ظلال التاريخ.. إرث من الانفصال والتدخل الخارجي
تمر الطائفة الدرزية في سوريا، وعلى وجه التحديد في محافظة السويداء، بامتحان وجودي مصيري يضعها عند مفترق طرق تاريخي. فالدعوة التي يروج لها الشيخ حكمت الهجري لإنشاء "كيان درزي منفصل" ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من المحاولات الهادفة إلى استغلال الجغرافيا الديموغرافية للطائفة وتحويلها إلى ورقة ضغط في الصراعات الإقليمية. وهذه الدعوة تستحضر ذاكرة تاريخية أليمة، وتحديدا تجربة "دولة جبل الدروز" التي أقامها الانتداب الفرنسي بين عامي 1921 و1936. تلك التجربة لم تكن سوى تطبيقا نموذجيا لاستراتيجية "فرق تسد" الكلاسيكية، حيث حولت القوى الاستعمارية التنوع الطائفي إلى خطوط تماس جيوسياسية يمكن توظيفها لضمان بقاء الدولة الأم ضعيفة ومقسومة.
اليوم، وفي ظل الوضع الجيوسياسي الهش لسوريا، تعود هذه الاستراتيجية بأشكال جديدة. فالدعوة الانفصالية الحالية لا تنبع من حركة تحرر وطني بقدر ما تعبر عن محاولة لإعادة هندسة الخريطة السياسية للمنطقة وفقا لمصالح قوى إقليمية ودولية تبحث عن نقاط نفوذ جديدة.
الفرق الجوهري بين التجربتين يكمن في السياق الاستراتيجي: فبينما كانت سوريا تحت الاستعمار المباشر سابقا، أصبحت اليوم ساحة لصراع بالوكالة بين قوى متعددة. هذا الوضع يجعل من أي مشروع انفصالي أداة متقدمة في حرب الوكالة الدائرة، حيث تتحول الطائفة إلى رهينة في صراعها من أجل البقاء بين مطرقة الدولة وسندان المشاريع التقسيمية، والتحدي الاستراتيجي الأكبر الذي يواجه الطائفة الدرزية اليوم هو كيفية الحفاظ على هويتها وحقوقها دون الانزلاق إلى فخ الاستقطاب الطائفي الذي يخدم أجندات خارجية. فالتاريخ يعلمنا أن المشاريع الانفصالية التي تولد من رحم الصراعات الدولية نادرا ما تؤدي إلى دولة مستقلة، بل إلى كيانات هشة وظيفتها الأساسية خدمة مصالح من يقف خلفها، وفي هذا السياق، يصبح مشروع الهجري مجرد امتداد لـ استراتيجية التفتيت التاريخية، لكن بأدوات عصرية وخطاب يلبس ثوب المطالبة بالحقوق بينما يخفي في طياته مخاطر العزلة والتبعية لقوى خارجية لا تعترف إلا بلغة المصالح لا لغة الحقوق، وفي ظل تعقيدات المشهد السوري والإقليمي، تبدو دعوة الهجري أقرب إلى المراهقة السياسية منها إلى المشروع الاستراتيجي الواعي، فهي تضع الطائفة في مسار تصادمي مع حقائق الجغرافيا السياسية ومصالح القوى الإقليمية والدوليـة، دون أن تقدـم إجابات عن الأسئلة المصيرية المتعلقة ببقاء هذا الكيان وهويته وعلاقاته.
الشيخ الهجري: من المرجعية الدينية إلى المشروع الانفصالي
يشكل الهجري أحد أبرز الأصوات المعارضة الدرزية في محافظة السويداء، لكن مواقفه تثير انقساماً حتى داخل الطائفة الدرزية نفسها، فبينما يصفه البعض بالزعيم الروحي، يؤكد مراقبون أن أتباعه يمثلون أقلية لا تعبر عن الموقف الحقيقي للطائفة، كما أن خلفيته مثيرة للجدل حيث ترد ادعاءات عن تواطئه مع نظام الأسد سابقا، حيث يُتهم بقتل أخيه الشيخ أحمد الهجري عام 2012 ليستولي على مشيخة العقل، ثم تحوله لاحقا إلى اللعب على الورقة الإسرائيلية. ويتأرجح خطابه بين اتهام القوى الأمنية بالتسبب بالفوضى في السويداء، وبين طلب الحماية من إسرائيل والولايات المتحدة، مما يكشف عن رؤية تكتيكية انتهازية تفتقر للرؤية الاستراتيجية، فهو يتحدث عن "شرفاء العالم" كما لو أن السياسة الدولية تقوم على المبادئ الأخلاقية، بينما التاريخ يُثبت أن المصالح هي المحرك الأساسي للدول، ولا تفكر في تغيير الخرائط إلا إذا خدم ذلك مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، والأدهى من ذلك أن الشيخ الهجري يتوهم أن إسرائيل يمكن أن تكون حامية للدروز، متناسيا أنها دولة تسعى لمصالحها، وقد نقلت تقارير أن مسؤولين إسرائيليين أبلغوا سوريين أنهم لا يدعمون حكما ذاتيا للدروز، مما يؤكد أن اللعبة أكبر من أحلام الانفصال. والسؤال الأهم عن هذا الكانتون المفترض؟ كيف ستمول مستشفياته وتعليمه وبناه التحتية؟ هذه ليست مجرد تفاصيل، بل هي الأسئلة التي تحفر الفرق بين الدولة القابلة للحياة وبين "الدولة الورقية" التي تموت بعد أيام من إعلانها. فالخبز والطحين ليسا مجرد سلع استهلاكية، بل هما ورقة الضغط الأولى في المعادلة الجيوسياسية. والمحروقات ليست مجرد مادة للتدفئة والنقل، بل هي شريان الحياة لأي كيان معاصر. والكهرباء ليست رفاهية، بل هي عصب الاقتصاد والأمن القومي، أما إدارة الجامعات والمستشفيات، فهي اختبار حقيقي للسيادة الفعلية على الأرض وليس السيادة على الخرائط والخطابات.
هذه الأسئلة المحرجة تفضح حقيقة أن المشروع الانفصالي ليس سوى رد فعل غاضب على واقع مرير، وليس خطة استراتيجية قائمة على ركائز صلبة، إنها تكشف أن الدعوة تسبح في فضاء من العواطف والأحلام، بعيدا عن أرض الواقع القاسية التي تحكمها معادلات القوة واقتصاديات البقاء.
فالانفصال لا يعني فقط رفع علم جديد، بل يعني تحمل مسؤولية توفير الأمن والغذاء والدواء لشعب بكامله في منطقة تعد من أكثر مناطق العالم تأثرا بالصراعات الدولية، وهو اختبار لا يقوى عليه إلا الدول القوية بجيوشها واقتصاداتها وتحالفاتها، فكيف بحالة كانتون صغير محاط بأعداء وأصحاب مصالح لا يرحمون؟
هنا يتحول الخطاب الانفصالي من مشروع تحرري إلى مأزق وجودي، ومن حلم بالاستقلال إلى كابوس التبعية. فبدلا من أن يكون الانفصال تحررا من التبعية، سيجد نفسه مضطرا للبحث عن راع جديد قد يكون أكثر استغلالا وأقل رحمة.
تستثمر إسرائيل الورقة الدرزية كأداة متعددة الأوجه ضمن استراتيجيتها الإقليمية، لا كقضية مبدئية. فهي تتعامل مع الملف كـ "رافعة تفاوضية" لتحسين شروط التسوية المستقبلية مع دمشق، خاصة فيما يتعلق بترتيبات الأمن في هضبة الجولان المحتلة. التاريخ الإسرائيلي يثبت أن تل أبيب تتعامل مع حلفائها وفق معادلة نفعية صرفة - فالحماية المزعومة للدروز ليست سوى ورقة تكتيكية قابلة للتغيير حينما تتعارض مع المصالح الإستراتيجية العليا لإسرائيل.
المخاطر المحدقة بالدروز
تستثمر إسرائيل الورقة الدرزية كأداة متعددة الأوجه ضمن استراتيجيتها الإقليمية، لا كقضية مبدئية. فهي تتعامل مع الملف كـ "رافعة تفاوضية" لتحسين شروط التسوية المستقبلية مع دمشق، خاصة فيما يتعلق بترتيبات الأمن في هضبة الجولان المحتلة، والتاريخ الإسرائيلي يثبت أن تل أبيب تتعامل مع حلفائها وفق معادلة نفعية صرفة - فالحماية المزعومة للدروز ليست سوى ورقة تكتيكية قابلة للتغيير حينما تتعارض مع المصالح الإستراتيجية العليا لإسرائيل.
أما على الصعيد الداخلي، فإن خطاب الهجري الانفصالي يهدد نسيجا اجتماعيا تاريخيا تميزت به السويداء لقرون، فالمحافظة شكلت نموذجا فريدا للتعايش بين مكوناتها المختلفة (الدروز، المسيحيين، المسلمين السنة، والبدو). وهذا التناغم الاجتماعي ليس تراثا ثقافيا فحسب، بل يمثل "رأس مال اجتماعي" يحفظ استقرار المنطقة في ظل العاصفة الإقليمية التي تجتاح سوريا.
وفي الإطار القانوني الدولي، فإن مبدأ تقرير المصير - الذي يستند إليه الانفصاليون - مقيد بضوابط صارمة، فالقانون الدولي لا يعترف بحق الانفصال إلا في حالتين: الاستعمار الأجنبي أو الاضطهاد الممنهج المنهجي. وحالة الدروز في سوريا، رغم كل التحديات، لا ترقى إلى هذا المستوى، فأي محاولة للانفصال في هذا السياق ستعزز العزلة الدولية للطائفة وتقطعها عن محيطها الإقليمي.
والخطر الجوهري هنا هو تحول الطائفة إلى "دولة وظيفية" هشة، معتمدة كليا على دعم خارجي متقلب، ومقطوعة عن محيطها الطبيعي. وهذا مصير استراتيجي ترفضه النخب الواعية في المجتمع الدرزي التي تدرك أن المستقبل يكمن في تعزيز المطالبة بالحقوق ضمن إطار سوريا الموحدة، لا في الانجرار نحو مشاريع انفصالية مجنونة.
خاتمة: الدروز بين خيارين
يمكن القول إن دعوة الهجري تمثل إخفاقاً آخر في قراءة الواقع السوري والإقليمي. فسوريا، كما قال الرئيس السوري أحمد الشرع، "وحدة جغرافية وبشرية يصعب تقسيمها"، والانفصال ليس حلا لمشاكل الطوائف، بل هو هروب إلى الأمام قد يقود إلى الهاوية، والخيار الوحيد أمام الدروز وغيرهم من مكونات السورية هو العمل ضمن إطار الدولة السورية للوصول إلى حلول توفيقية تحفظ الحقوق وتضمن الوحدة، لأن العالم ليس جمعية خيرية، ولأن إسرائيل ليست حامية للمظلومين، ولأن الدول لا تعترف إلا بلغة المصالح لا لغة الصيحات العاطفية.