بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
ملخص:
لم تكن الهدنة الأخيرة هذه سوى محصّلة لهدن
سابقة ومتعددة، وما تلا ذلك من عدوان روسي على المناطق المحررة لتسقط مساحات واسعة
في قبضة الميليشيات الإيرانية وتلك التابعة للأسد بفعل الهدن التي استحدثها الروس كتكتيك فرضته
وقائع الميدان المتصلة بمواقف إقليمية ودولية. وقد كسبت روسيا تلك الهدن على مستويات
مختلفة، عسكرية وأمنية وسياسية وجغرافية، لتبدو أقوى قوة مسلحة مسيطرة في البلاد، ثم
لتستثمر الهدن استثماراً متنوّعاً، بحيث برز دورها جلياً في وأد الثورة السورية. ومع
الهدنة الجارية, ودخول الإعلان التركي الروسي
لوقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد الرابعة حيز التنفيذ منتصف ليل السبت 11 كانون
الثاني/يناير 2020، خرق الطيران الحربي
الروسي وذاك التابع للنظام قرار وقف إطلاق النار بعد ساعتين من إعلان وزارة الدفاع
الروسية عنه، يوم الخميس الماضي قبل أن تصحح روسيا وتركيا تاريخ
بدء"الهدنة". ومع ذلك خرقت القوات الروسية هدنة وقف "إطلاق النار"
الذي أعلنته بالتشارك مع تركيا في منطقة خفض التصعيد الرابعة "إدلب" بعد
مضي 72 ساعة على سريانها، وقصفت عددا من القرى والبلدات بريف إدلب بغارات جوية. وقال
معاذ العباس مراسل بلدي نيوز بريف إدلب؛ إن "الطائرات الحربية الروسية قصفت فجر
اليوم الأربعاء قرية "الهرتمية" الواقعة شمال بلدة معصران بالصواريخ الفراغية،
بعد عودة عدد من العوائل إلى القرية عقب إعلان وقف إطلاق النار المزعوم، ما أدى لدمار
في المنازل وتدمير مسجد القرية، وأضاف العباس: "أن الطائرات الروسية استهدف أيضا
بلدتي "خان السبل ومحيط معصران" بأكثر من عشر غارات جوية بالصواريخ الفراغية
جنوب شرق إدلب". كما قصفت الطائرات الحربية مدينة إدلب, وقال محمد وليد جبس مراسل
بلدي نيوز بريف إدلب ارتفعت حصيلة الشهداء المدنيين في مدينة إدلب إلى 15 شهيدا جراء
الغارات الجوية التي استهدفت المدينة, مع ملاحظة إلى أن قوات النظام لم تلتزم بهدنة
وقف إطلاق النار منذ إعلانها بين الجانبين التركي والروسي الخميس الفائت.
وعلى الرغم من تراجع حدة القصف خلال
يومين، إلا أنّ الهدنة التي تم الإعلان عنها لا يبدو أنها تعني وقفاً لإطلاق النار،
فكل الهدن والاتفاقيات بين فصائل الثورة السورية وقوات نظام الأسد خلال الأعوام الماضية
من عمر الثورة ما هي إلا سلسلة تدور في عجلة عربة كبيرة هي "عربة الهدن" بهدف تصفية الثورة السورية وتفريغها من مضمونها بعد أن تحولت من قضية شعب يطالب
بالتحول الديمقراطي إلى مجرد ملف على طاولة
"الكبار"، الهدف الظاهري منه "محاربة الإرهاب", وواقعيا يتمثل
بالحرب ضد كل أطياف الثورة السورية دون تمييز ما بين فصائل مصنفة على قوائم
"الإرهاب" وتلك المعروفة باعتدالها. في السياق, بذلت أنقرة جهودا كبيرة منذ منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر،
حين أرسلت وفدا عسكرياً إلى موسكو بهدف إقناع المسؤولين هناك بضرورة وقف الهجوم الذي
يشنه نظام الأسد، وكان ملف إدلب أحد أبرز الملفات التي تداولها الرئيسان في لقاء اسطنبول
الأربعاء الماضي، خلال زيارة بوتين السريعة لتركيا وحضوره تدشين خط “السيل التركي”
لنقل الغاز الروسي إلى تركيا وأوروبا، إلى جانب الرئيس الصربي ورئيس الوزراء البلغاري.
وفي هذا اللقاء، أكد الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، في بيان
مشترك على ضرورة ضمان التهدئة في منطقة إدلب السورية عبر تنفيذ جميع بنود الاتفاقيات
المتعلقة بها”. وأكد البيان على “ضرورة الالتزام بحماية سيادة سوريا واستقلالها ووحدتها
السياسية وسلامة أراضيها”. وأشار إلى “ضرورة الحزم في محاربة جميع أشكال الإرهاب في
سوريا واحباط الأجندة الانفصالية فيها”.
الهدن أسلوب ناعم لتصفية
الثورة
منذ التدخل الروسي في سوريا تحاول كل
حين قوات الأسد المدعومة بالميليشيات الإيرانية، الاستيلاء على مناطق جديدة بهدف إفشال
أي مسعى سياسي، واتخذت من خيار الحسم العسكري العنوان الأبرز لرؤية الأسد لاسترداده
مناطق خسرها في معارك ضد فصائل الثورة العسكرية، وعادة يعمد الأسد إلى هذا الخيار بدافع
من حلفائه الايرانيين والروس، ومن أبرز الوقائع المؤكدة على هذا المذهب ما قام به نظام
الأسد ضد المناطق الثائرة من خلال اتباع سياسة الأرض المحروقة وإطباق الحصار عليها
لإخضاعها بالقوة، حيث ركز على دمشق وريفها لإنهاء الوجود العسكري المعارض في العاصمة
ومحيطها, ابتداءً من "برزة" في شباط 2014 لتتبعها أحياء القابون وتشرين في
شهر أيلول من العام ذاته. وجاءت هدنة برزة
بعد معارك عنيفة شهدها الحي بين مقاتليه وقوات الأسد، لم تستطع الأخيرة التقدم
فيه رغم القصف الجوي والبري لتلجأ إلى ما يسميه إعلام نظام الأسد بـ "المصالحة".
وأصبحت منطقة جنوب دمشق آمنة لنظام الأسد بشكل شبه كامل، ومن نتائج هذه الهدنة, أن
أصبحت هذه الجبهة المحاذية للغوطة الشرقية في حالة هدوء شبه تام، يشوبها خروقات من
قبل قوات الأسد، إثر استهداف حي القابون بقذائف
الهاون بشكل متكرر. وانتقلت مشاريع هدن الأسد إلى الغوطة الغربية بدءا من مدينة قدسيا
ومعضمية الشام وداريا, وعمد نظام الأسد إلى تنفيذ ذات "الهدن" في بلدات وادي
بردى (بسيمة، عين الفيجة، وادي مقرن، كفير الزيت) وصولا إلى منطقة آمنة تمتد من الزبداني
فمضايا وصولاً للعاصمة، وبالتالي ضمان الاستقرار الأمني والعسكري لنظام الأسد بعد تأمين
طريق إمداده بيروت – دمشق. لتنفذ أكبر حملة لتهجير سكان ريف دمشق وبالأخص داريا بعد إجلاء جميع المدنيين
والمقاتلين منها، لتغييرها ديموغرافيًا، وتوطين الميليشيات الداعمة للأسد وعائلاتهم
في المدينة التي عانت حصارًا دام لسنوات، واستهدفتها بالبراميل المتفجرة والنابالم
والصواريخ لإجبار أهلها على النزوح، وهي جرائم ترقى إلى التطهير العرقي بحسب القوانين
الدولية، ولكن المجتمع الدولي والمنظمات الدولية لم تحرك ساكنًا وخاصة الأمم المتحدة
التي أشرفت على عملية التهجير. وفي هذا الإطار كانت هدنة حلب في شباط/ فبراير 2016م،
التي أفرغت حلب المحررة من سكانها, وبعد معركة السيطرة على ريف حماة ربيع وصيف
2019 أعلنت روسيا هدنة من جانب واحد, لم تلبث وأن نقضتها ليعود الهجوم مجددا, لتعلن
روسيا التوصل إلى وقف إطلاق نار جديد في منطقة إدلب، بعد شهر من الهجوم على ريف معرة
النعمان الشرقي وقضم مناطق جديدة، وهي بذلك تفرض منطقة خفض تصعيد أخرى وترسم حدودا
جديدة لها، بسبب استحالة استعادة سيطرة الفصائل على ما خسرته أو موافقة روسيا على الانسحاب
مما سيطرت عليه مع نظام الأسد، وتجبر الأطراف وضامن الفصائل (تركيا) على الموافقة على
تحديث عمق المنطقة منزوعة السلاح الثقيل والخالية من الفصائل المتطرفة والجهادية والقبول
بالواقع الجديد.
ألغام مفخخة
كل ما سبق من هدن واتفاقيات هي بقصد تسوية
سياسية بين طرفي النزاع، إلا أن الأسد يقدم دائما خيار القوة على خيار التسوية السياسية،
وأبرز المحطات بين خياري القوة والسلام هو ما دعت إليه موسكو و"ضامن الفصائل
التركي" من وقف للعمليات القتالية وإطلاق مفاوضات في منطقة خفض التصعيد
الرابعة، لذا كان الأمر الأهم بالنسبة إلى الجانب الروسي البحث عن التسويات التي برع
فيها تجنباً لمعارك استنزاف طويلة ومنهكة بعد اقترابه من المدن الكبرى "معرة
النعمان وسراقب"، والدعوة لفتح معابر بقصد نزوح المدنيين باتجاه مناطق سيطرة
نظام الأسد، والانخراط في تسويات مع النظام، الأمر الذي سيؤدي إلى شق الصف وإثارة البلبلة والنزاع، بهدف إسقاط المناطق المحررة سريعا، وكذلك اتفاق سوتشي
الموقع بين تركيا وروسيا في أيلول / سبتمبر الماضي استقبله الأسد وحليفه الإيراني بالدبلوماسية
المخاتلة كنتيجة طبيعية لتداعيات الهدن، وكأسلوب ناعم لتصفية الثورة السورية وإعطاء
المزيد من الوقت للروس وحلفائهم لتعزيز نفوذهم ورفد قدراتهم العسكرية بالمقاتلين والأسلحة
والذخائر والإمدادات اللوجستية والتوسع في مناطق لم تكن خاضعة لسيطرتهم. يبدو أنّ الهدن
التي طحنت بنتائجها المناطق المحررة خلال تسع سنوات من عمر الثورة، أغرت الأسد باقتفاء
أثرها للتعامل مع المعارضة المسلحة, ليصب الاتفاق الروسي التركي في اتجاه عربة الهدن,
معيدا إلى الذاكرة حدثاً قريب الشبه مرت به منطقة خفض التصعيد الرابعة في صيف
وربيع السنة الفائتة الذي تكاد ظروفه ووقائعه تتطابق و الهدنة الراهنة المنهارة مع
تحول جذري في موقف أطراف الصراع, قدرة ودورا وموقعا، بعد حصر الملف بيد روسيا.
خلاصة
هذه الهدنة تحاكي هدن روسيا السابقة, لتبقى
إستراتيجية "الاحتواء الناعم" أقل كلفة لمسعى روسيا في إخضاع "منطقة
خفض التصعيد الرابعة" والدخول في مفاوضات تكميلية متعرجة المسار برعاية تركيا
يحتوي بموجبها باقي المدن والبلدات الثائرة بالطريقة ذاتها التي اتبعها مع الفصائل
التي غادرت مناطقها قسرا نتيجة للهدن, وتتيح الاتفاقية الأخيرة استمرار روسيا في عدوانها
سواء كان ذلك بذرائع تنفيذ بنود سوتشي أو بدون ذلك. ولا تعير موسكو أدنى اهتمام لفشل
الهدنة، فالبديل الإستراتيجي "الاحتواء الخشن"، في شن حربٍ تدميرية طاحنة ضد المناطق المحررة, هو مسعى روسيا
في توسيع دائرة الصراع، وتنويع أدوات المواجهة وزعزعة الأمن والاستقرار فيها
كما أنّ حلفاء هذه الاستراتيجية التي قضت على الآلاف من السوريين قتلا أو جوعا، ليست
لديهم نية في التراجع عنها، خصوصاً الميليشيات الشيعية "الحرس الإيراني, والميليشيات
العراقية والأفغانية وحزب الله اللبناني"
الذين يعتبرون الحرب الدائرة في سورية حرب معتقد ووجود، وذهبوا أبعد من ذلك بتحميل
المعارضة السورية جزء من مسؤولية مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني الذي قضى إثر
استهدافه بطائرة أمريكية مسيرة بالقرب من بغداد وقد عبّر قادة الميليشيات الشيعية عن
ذلك بذبح رعاة سوريين لاعتبارات مذهبية وطائفية, ولعل حشودهم العسكرية بالقرب من
مدينة حلب تشير إلى نوايا مبيتة للحلف الروسي في الانقضاض على الهدنة واستكمال
العدوان كما يجري الآن في إدلب من العودة الكثيفة للطيران الحربي بعدما ضرب بوتين بوعوده
وتعهداته وبكل القرارات الأممية الخاصة بسوريا عرض الحائط. والسؤال
الأهم هل استوعبت المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري ماهية الهدنة المنهارة
الجارية مع استعدادات الحلف الروسي للانقضاض على ملاذها الأخير؟