Foreign Policy - ترجمة بلدي نيوز
بعد أن فاجأ العالم بأجمعه بدخوله المفاجئ في الحرب السورية العام الماضي، صدم بوتين جميع المراقبين والسياسيين مرة أخرى بانسحاب جزء من القوات العسكرية الروسية يوم 14 أذار من سورية، حيث أعلن الرئيس الروسي أن أهدافه قد أنجزت بشكل عام.
وفي حين أنه من السابق لأوانه معرفة نطاق الانسحاب الروسي، فمن الأسلم أن نفترض أنه لا يرقى إلى الانسحاب الكامل، على غرار انسحاب الولايات المتحدة عام 2011 من العراق.
فبوتين سيحافظ على أصول عسكرية كافية في سورية لإعادة نشر قواته هناك عندما يقرر فعل ذلك، وعلى حد قوله يوم الخميس: "تستطيع روسيا أن تزيد من نفوذها مرة أخرى في غضون ساعات قليلة".
وكانت وزارة الدفاع الروسية قد أعلنت يوم الجمعة أن ما يقرب من عشرين طلعة جوية يومية كانت قد أجريت لدعم تقدم النظام السوري على شرق مدينة تدمر.
كما ستبقي روسيا أيضاً على قاعدة بحرية في طرطوس، وقاعدة جوية في مطار "حميميم"، بالإضافة إلى مئات الجنود الروس لحماية هذه المقرات، كما سيحافظ بوتين على أنظمة الدفاع الجوي "إس- 400" الروسية لردع تركيا من إسقاط طائرة روسية أخرى.
وأي حديث عن أن هذا الانسحاب "الجزئي" سيحول مجرى الحرب السورية لصالح المعارضة هو كلام "تمني"، فقد ذهبت موسكو إلى سوريا لمنع سقوط نظام بشار الأسد، ودعم ما يصل اليه على المدى الطويل، هذان الهدفان هما الأسباب الرئيسية لسياسة روسيا في سورية، وترى موسكو أنها حققت هذه الأهداف -ولكن إذا اعتقدت أن بقاء النظام مهدد مرة أخرى- فإنها لن تتردد في نشر قواتها مجدداً.
لكن الآن، يرى بوتين بوضوح أن موقف الأسد بات آمناً، وبالنظر إلى المعادلة العسكرية على الأرض والحقائق الجيوسياسية -لاسيما إحجام الولايات المتحدة بالانخراط في العمل العسكري في سوريا- فموسكو واثقة من أن أي تهديد آخر لبقاء النظام لن يتحقق في أي وقت قريب.
غير أن إعلان انسحاب بوتين يضع النظام السوري على المحك، وأمام امتحان حقيقي، ورغم أن دمشق سارعت لتجعل الانسحاب يبدو وكأن موسكو لم تتخلى عنها، لكن غضب روسيا بات واضحاً من عدم مرونة الأسد، حيث ترى أن نظام الأسد يجب أن يستثمر المكاسب العسكرية التي حققها مؤخراً كميزة للتفاوض في محادثات السلام الجارية في جنيف، ولكن حكومة دمشق لا تظهر رغبة كبيرة للتفاوض حول المستقبل السياسي في البلاد على الإطلاق.
والعلاقة المضطربة بين موسكو والأسد ليس تطوراً حديثاً، ففي يوم 27 تشرين الثاني 2012، قال رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف أن موسكو لديها "علاقات عمل جيدة" مع الأسد -ولكنها ليست "علاقة مميزة"- كما التي كانت موجودة مع والده حافظ الأسد، فعلى مدى السنوات الخمس الماضية تجاهل الأسد الابن الطلبات والتوصيات العديدة التي أوصى بها بوتين من أجل اعتماد تدابير لبناء الثقة تجاه المعارضة، بما في ذلك إطلاق سراح السجناء السياسيين.
وخلال السنوات الأربع الأولى من النزاع السوري، لم تقم موسكو بدعوة الأسد ولا لمرة واحدة إلى الكرملين -رغم طلبات دمشق الكثيرة- فقد كان الأسد يسعى لرمزية المصافحة مع الرئيس الروسي في الوقت الذي كان فيه شخصاً غير مرغوب به في العواصم الدولية والإقليمية، ماعدا طهران.
ولكن، في شهر تشرين الأول من العام الماضي -منح الكرملين أخيراً ما رغب به الأسد منذ فترة طويلة- وهو التقاط صور تذكارية مع الرئيس الروسي، أما بالنسبة لبوتين فكانت هذه فرصة لإعادة التأكيد لجمهوره المحلي الروسي أن التدخل العسكري جاء بناءً على طلب من النظام السوري، وللضغط على الأسد في لقاء (وجهاً لوجه) على أن الحل الوحيد في سوريا هو تسوية دبلوماسية بمشاركة كافة القوى والجماعات السياسية، بما في ذلك جماعات المعارضة المسلحة.
وعلى مدى الشهرين الماضيين، كانت خيبة أمل موسكو متزايدة من النظام السوري، وعلى الملأ، فقد قام مبعوث الأمم المتحدة الروسي "فيتالي تشوركين" في 18 شباط باستنكار هدف الأسد الذي أعلنه برغبته استعادة السيطرة على كل الأراضي السورية، حيث أن تصريحات الأسد "لا تتناغم مع الجهود الدبلوماسية التي تقوم بها روسيا".
واتسعت الفجوة بين موسكو ودمشق بعد تصريحات تشوركين، وبعد أن أصدر الأسد المرسوم الرئاسي في 22 شباط، المتعلق بالانتخابات البرلمانية التي ستعقد في شهر نيسان، وقامت موسكو بتذكيره أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ستعقد بعد أن تضع المعارضة السورية والحكومة دستوراً جديداً، كما أن حديث وزير الخارجية السوري "وليد المعلم" عن أن الأسد هو "خط أحمر" قبل مفاوضات جنيف، لم يلق استحساناً في موسكو على الإطلاق.
ولكن أياً من المشاحنات السياسية لا تشير إلى أن بوتين مستعد للتخلي عن الأسد، ففي حين أن موسكو لا تريد أن تكون رهينة للنظام السوري، إلا أنه لا يوجد أمامها خيار سوى مواصلة التعامل مع قيادة الأسد، وعلى الرغم من العلاقة المضطربة مع دمشق، لم يتردد بوتين بإرسال قواته الجوية، عندما كانت ثرواته العسكرية في خطر.
وحتى الآن، أعادت الدبلوماسية الروسية في سوريا -تأسيس دور روسيا كلاعب إقليمي رئيسي في سورية- كما أن مشاركتها في المجموعة الدولية الداعمة لسورية والمكونة من 20 دولة ومنظمة (ISSG)، قد عزز من مكانة روسيا كقوة دولية لا يستهان بها، كما ضمن ترتيبات سياسية مستقبلية في سورية لتأمين مصالحها.
وقد أنتج تعاون موسكو وواشنطن "اتفاق وقف الأعمال العدائية" والذي رغم عدم مثاليته، إلا أنه أدى إلى انخفاض كبير في أعمال العنف في سورية، وسهل من وصول المساعدات الإنسانية إلى بعض المناطق المحاصرة، على الرغم من أن التقارير الأخيرة تشير إلى أن الحكومة السورية قد عرقلت منح إذن لإيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة.
ومهدت التنازلات المتبادلة بين روسيا والولايات المتحدة الطريق لهذا التعاون، وبناء على طلب روسيا والصين، لم يتم الإشارة إلى الأسد في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، والذي قدم خارطة طريق لوقف إطلاق النار وعملية السلام لإنهاء الصراع في سوريا.
روسيا، في الوقت نفسه، تخلت عن إصرارها على استبعاد أحرار الشام وجيش الاسلام من اتفاق وقف الأعمال العدائية وقررت أن تكتفي بـ "الغموض الخلاق" لما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية، وجبهة النصرة وغيرها من المنظمات الإرهابية المحددة من قبل مجلس الامن الدولي.
ويستند التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا أيضاً على أساس أن هذه الإجراءات أحادية الجانب، ولكن منسقة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وعلى الرغم من ادعائها أنها تقاتل "الإرهابيين" في سوريا، فقد استخدمت موسكو الجزء الأكبر من القوة العسكرية لاستهداف الجماعات الثورية والغير إسلامية، وذلك بهدف تعزيز قوة النظام السوري الذي تعتبره ضرورياً لبقائها، كما وترى موسكو أن تنظيم الدولة الإسلامية يمثل تهديداً للولايات المتحدة والمصالح الغربية أكثر من روسيا، على الرغم من وجود الشيشان والمقاتلين الروس الآخرين في سوريا.
وللمضي قدماً، سيقوم بوتين بلعب دور "صانع السلام" في سورية بطريقتين خلال المفاوضات: أولا، لا بد له من التوصل إلى تسوية مع الولايات المتحدة، ثم، لا بد له من اقناع حلفائه في دمشق وطهران بالتخلي عن مواقفهما المتطرفة للحل السياسي للصراع.
ولا تزال الولايات المتحدة وروسيا لا تتفقان بشأن القضايا الرئيسية، بما في ذلك تشكيل وصلاحيات السلطة الانتقالية، ودور الأسد في المرحلة الانتقالية، وأي من الجماعات الثورية ستعتبر إرهابية، ودور العدالة الانتقالية في اتفاق السلام.
ولا يبدو أن موسكو وواشنطن قد حققوا تقدماً في حل خلافاتهم حول اللامركزية في مرحلة ما بعد الأسد في سوريا، فبعد التخلي عن المخاوف المبكرة من أن اللامركزية قد تؤدي إلى تفكك البلاد، يبدو أن روسيا الآن متقبلة لفكرة أن النموذج الفيدرالي يمكن أن يطبق على سورية في المستقبل، إذا وافق السوريون على ذلك، وقال المتحدث باسم الكرملين "ديمتري بيسكوف" يوم الخميس أنه في حين تريد موسكو لسوريا أن تبقى موحدة، ينبغي على السوريين أنفسهم ان يختاروا بنية السلطة في بلادهم.
أما مصير الأسد فسيكون اختباراً مهماً لبوتين مع إيران، فكل من طهران وموسكو لم يدخرا أي جهد للحفاظ على الأسد في السلطة في ظل عدم وجود اتفاق سياسي، في حين ما يزالان مختلفين حول كيفية ترتيب تقاسم السلطة بحيث يضمن كل منهما مصالحه في سورية، فحكومة تضم عناصر من النظام ولكن دون الأسد كرئيس، قد تكون مقبولًة لموسكو، ولكن ليس إلى طهران.
وحتى الآن، فإن الحرس الثوري الإسلامي، هو المسؤول عن سياسة إيران في سورية، ولا يزال يرى أن الأسد هو الضامن بأن لا تصبح سوريا قاعدة لتنفيذ أجندة إقليمية معادية لإيران ومناهضة لحزب الله.
وتملك روسيا شبكة قديمة من العلاقات الرسمية وغير الرسمية مع كافة هياكل النظام السوري والمجتمع السوري، أما بالنسبة لإيران فقد كان الأسد هو دائماً المحاور الرئيسي لإيران في سورية، منذ توليه السلطة في عام 2000، كما واستثمر الأسد المزيد من الوقت والجهد في تعزيز علاقته مع طهران وحزب الله أكثر من أي بلد أو حزب آخر –وهو استثمار في رأي الأسد- قد جاء وقت الاستفادة منه.
فقرار بوتين بسحب بعض قواته من سوريا يعزز هذا الرأي، وهو أن رهان الأسد على طهران وحزب الله كان صحيحاً، وهذا سيجعل بوتين أكثر اعتماداً على استعداد طهران في مساعدته على كبح جماح الأسد من أجل التوصل إلى حل سياسي، كما أن ذلك سيجعل طهران، وليس موسكو، القوة التي لا غنى عنها في توقيع أي اتفاق سياسي في سوريا.