ترجمة بلدي نيوز - Foreign Affairs
إن قرار الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في أيلول 2015 القاضي بنشر قوات عسكرية على ساحات القتال في سوريا فاجئ أكثر محللي السياسة الخارجية خبرةً، فبوتين لا يميل إلى فعل الغير متوقع، وخاصة في الآونة الأخيرة بعد ضم شبه جزيرة القرم، ودعمه للدويلات الانفصالية في منطقة دونباس شرق أوكرانيا.
وفي صيف عام 2014، كانت الجمهوريات التي نصبت نفسها تتجه نحو الهزيمة، وكان الجيش الأوكراني وزمرة من الميليشيات الخاصة يتجهون للأراضي التي يسيطر عليها المتمردون، وبدا أنهم لن يستطيعوا الصمود أكثر، فجاء بوتين لإنقاذهم وزودهم بالأسلحة والأفراد لهجوم مضاد وللمساعدة في فتح جبهة جديدة على الساحل الجنوبي لأوكرانيا بالقرب من نوفوازوفسك، وتم تصميم هذه المناورة لتقسيم القوات الأوكرانية.
ودفع التدخل الروسي جبهة "الدونباس" غرباً، وأوقف بوتين في النهاية هجمات المتمردين التي تحظى بالدعم الروسي، ولكن ليس قبل أن يلحق الهزيمة بالقوات الأوكرانية في "دبالتسيفي" في شباط 2015، وتراجعت القوات الأوكرانية حينها بإذلال كبير، وكان تصعيد بوتين ألغى إلى حد كبير مكاسب أوكرانيا السابقة وبعث برسالة عن عزم موسكو: قصفٌ اليوم، ذهاب وإياب على طول جبهة جديدة، وضع يعطي بوتين النفوذ الذي يريده.
ومن أوكرانيا، ذهب بوتين إلى سوريا، يقول غاري كاسباروف، وهو زعيم سابق للمعارضة الروسية السياسية، بأن عجز الرئيس الأميركي باراك أوباما في أوكرانيا، هو ما شجع على تدخل روسيا فيها، فقد استولى على الأراضي في شبه جزيرة القرم، وأشعل الحرب في "دونباس" دون إثارة رد عسكري من الولايات المتحدة، وبالتالي استنتج الرئيس الروسي أن بإمكانه أن يفعل شيئاً آخر جريء في سوريا ويفلت من العقاب.
إن العلاقة بين أوكرانيا وسوريا تسلط الضوء على نظرة بوتين والدائرة الضيقة من حوله، فإن شئنا أم أبينا، تنظر النخبة الحاكمة في روسيا لأوكرانيا على أنها المجال الشرعي التاريخي لنفوذ بلادهم، وقد يكون من المريح أن نعتقد أن هذا "الموقف الإمبراطوري" يعكس فقط هاجس بوتين الشخصي من القوة والمكانة، ولكنه يتلاشى مع ذهابه عن الحكم.
ولكن هذا التقييم المتفائل لا يصمد، فرئيس الوزراء الروسي الحالي "ديمتري ميدفيديف" والذي يعتبره البعض "كمصلح" ومؤيد لتحسين العلاقات مع الغرب، كان قد أعلن خلال زيارته (في أعقاب الحرب بين روسيا وجورجيا عام 2008) أن الدول القريبة من روسيا تنتمي إلى منطقة نفوذها بسبب المصالح المميزة.
وبعبارة أخرى، ليس فقط بوتين من يعتقد أن القوى العظمى يحق لها الحصول على مناطق النفوذ وأن روسيا في خطر، فكذلك اعتنق الكثير من القادة الروس هذا الرأي قبل توليه سدة الحكم ، تماماً كما فعل أسلافهم القياصرة والسوفييت، وحتى من سيخلف بوتين سيحمل نفس الرؤية، كما أن استطلاعات الرأي التي تقوم بها الدولة الروسية تشير إلى أن تحدي بوتين للغرب ودفاعه عن مصالح السياسة الخارجية الروسية له دعم كبير من قبل المجتمع الروسي ككل وليس فقط داخل القيادة.
المنطق نفسه يمكن تطبيقه في سوريا، ومن المؤكد أن سوريا لا يمكن مقارنتها مع الجمهوريات السوفيتية السابقة من حيث الأهمية الاستراتيجية لروسيا لأسباب جغرافية وعرقية وثقافية، لكن بوتين لم يرسل الطائرات الحربية والمدرعات إلى سوريا كعرض رجولي أو بسبب أزمة أوكرانيا التي أقنعته بان أوباما يفتقر إلى القوة.
كما أنه لم يفعل ذلك لصرف الانتباه عن أوكرانيا، فبوتين استخدم القوة العسكرية في سورية لأنه رأى أن مصالحه المهمة هناك هي على المحك، وكان مستعداً لحماية تلك المصالح على الرغم من العقوبات الاقتصادية الغربية التي كانت تضغط على روسيا، وعلاقاته مع الولايات المتحدة ومع أوروبا والتي باتت في حالة يرثى لها.
وتظهر الخلفية التاريخية، كيف كان لموسكو علاقات وثيقة مع الأنظمة البعثية السورية المتعاقبة منذ خمسينيات القرن الماضي، منذ صفقة الأسلحة الأولى التي وقعها الاتحاد السوفيتي مع أول حكومة في الشرق الأوسط، وهي سوريا عام 1954.
وعلى مدى العقود التي تلت ذلك، كانت سوريا المتلقي الرئيسي للمساعدات الاقتصادية السوفيتية، وتم بناء قطاع الدولة واقتصادها من خلال مبالغ كبيرة من الأموال الروسية ومن خلال مساعدة وفيرة من الخبراء الفنيين الروس، كما درس أكثر من 30.000 ألف طالب سوري العلوم والهندسة والطب في الجامعات الروسية والسوفيتية، إضافة إلى ذلك تم تدريب حوالي 10.000 ضابط سوري في الأكاديميات العسكرية السوفياتية، وبعض من هؤلاء المدنيين والجنود تزوجوا من نساء روسيات، وعدة آلاف منهم، فضلاً عن غيرهم من الروس، يعيشون الآن في سوريا.
وقد استطاعت البحرية السوفيتية الوصول إلى ميناء طرطوس في عام 1971 وذلك بفضل المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي قدمت لسورية، وفي عام 1980 وقع الاتحاد السوفييتي مع الرئيس حافظ الأسد على معاهدة الصداقة والتعاون والتي كان لها إيحاءات أمنية.
وباتت علاقات وكالات المخابرات الروسية والسورية وطيدة جداً، ورغم أن الحكومة السورية قد كافحت الماركسيين والشيوعيين واضطهد تهم في سجونها، ولكن هذا لم يزعج موسكو، فقد كانت سوريا استثماراً استراتيجياً، وليس اختباراً للنقاء الإيديولوجي.
وحتى عندما انهار الاتحاد السوفيتي، بقيت العلاقات الروسية السورية راسخة، حتى أن موسكو ألغت ما يقرب من 10 مليار دولار من الدين المتراكم على سورية خلال الحقبة السوفييتية، وظلت العلاقات السياسية قوية، وحافظت سورية على تدفق الأسلحة الروسية إليها، وقامت روسيا بتجديد ميناء طرطوس وتعميقه، مما جعله الموطن الجديد المثالي لأسطول البحر الأسود الروسي من السفن الحربية والغواصات.
لذلك عندما قفز بوتين إلى الحرب السورية، كان كما هو الحال في أوكرانيا، ما حفزه على الخطوة التي كانت مقررة من العراق وإيران، كان إدراك القيادة الروسية أن النظام السوري سينهار قريباً، وبحلول ذلك الوقت كان الثوار السوريين يجتاحون محافظتي إدلب وحلب، كبرى المدن السورية والمركز التجاري الهام في سورية، والأسوأ من ذلك، أنهم انتقلوا إلى الشريط الساحلي الممتد من شمال اللاذقية جنوباً إلى ما بعد طرطوس، وكان يحدّ عملياتهم من الشرق جبل "النصيريين" الوطن التاريخي للأقلية العلوية (التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد) والتي تهيمن على الدولة السورية على مدى عقود.
ولو أن المحاربين الإسلاميين قد احتلوا الساحل بالكامل، لكان الأسد قد سقط، وبالتالي فهم بوتين أن النفوذ الروسي الذي تم بناءه على مدى أكثر من نصف قرن، من شأنه أن يتبخر، وعلاوة على ذلك، كان الآلاف من المقاتلين المسلمين من منطقة شمال القوقاز الروسية قد انضموا إلى الحرب ضد الأسد، ولذلك خشي من أن دولة إسلامية في سوريا من شأنها أن تلهم هؤلاء المسلمين الروس الذين يميلون إلى التطرف، وربما تعمق من التمرد الإسلامي في جنوب روسيا.
وكما هو الحال في أوكرانيا، روسيا لن تتراجع عن سوريا، وعدد قليل من الخبراء يحثون الولايات المتحدة على إيقاف الطائرات والقاذفات الروسية الي تدوي في سماء سورية وتجعل من أرضها مطحنة، فمع حقيقة أن هناك أكثر من 300.000 ألف قتيل سوري في الصراع، وأكثر من سبعة ملايين لاجئ، كثير من الناس في الغرب يشعرون بالغضب ويريدون القيام بشيء ما، ولكن في الواقع هناك القليل مما تستطيع الولايات المتحدة القيام به الآن.
إن خطوط المعركة في سورية في تحول مستمر، فالأراضي والأسلحة تتغيران باستمرار، والتحالفات غير ثابتة، والأسلحة التي يتم ضخها في مثل هذه البيئة قد تصل بسهولة للأيدي الخطأ.
وكل هذا لا يعني أن بوتين يملك خطة رئيسية لسورية أو أوكرانيا، وإن كانت فعلاً غير موجودة، فإن نهاية اللعبة لموسكو في كلا المكانين غير واضحة، وربما حتى إلى موسكو، فالتكهنات حول هجوم جديد لبوتين في أوكرانيا، قد يجعل القوات الروسية تواجه عوائق هائلة عندما تتقدم غرباً، حيث سيدخلون المناطق ذات الغالبية الأوكرانية وسيواجهون مقاومة، وليستطيعوا السيطرة على المدن الكبرى مثل دنيبروبتروفسك و خاركوف و ماريوبول، سيغرق الجيش الروسي سيغرق في حرب المدن الدموية، وسيتوجب عليه الدفاع عن خطوط الإمداد الطويلة.
الأهم من ذلك، أن بوتين قد حرق الجسور الأخيرة التي كان قد بناها مع الغرب من خلال المشاركة الإنتاجية في المفاوضات "P5 + 1" المتعلقة ببرنامج إيران النووي، وهذه العزلة قد تدفع روسيا تجاه الصين، ولكن الاستراتيجيون الروس يخشون هذا الاحتمال بسبب قوة الصين المتنامية ، والتاريخ المضطرب بين روسيا والصين خلال الـ 150 سنة الماضية، وبسبب الشرق الأقصى الروسي القليل السكان، المجاور للصين.
وبعبارة أخرى، بوتين لن يحاول ضم المزيد من الأراضي، بدلاً من ذلك هو يتوقع تكرار ثورة أوكرانيا البرتقالية عام 2004، والمشكلة بالنسبة لبوتين أن تشخيصه لأوكرانيا قد يكون كاذباً، وأن تنزلق البلاد من الفلك الروسي.
أما في سوريا، فروسيا ليس لديها أوهام بأن الأسد سوف يحكم بلداً موحداً في يوم من الأيام، وفي الواقع انزعجت روسيا مؤخراً من تبجح الأسد مؤخراً من تأكيد ه على إعادة السيطرة الكاملة على سورية، بدلاً من ذلك، تريد موسكو الاستخدام المناسب للمكاسب التي حققتها قواته بعد التدخل الروسي للتوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة مع خصومه.
ومن المفارقات، أنه على الرغم من أن التدخل الروسي قد منح الأسد الثقة بأنه يستطيع تأمين انتصارات إضافية وتأخير التوصل الى اتفاق_ إلا أن روسيا (سيده) يمكن أن تطلب منه التفاوض، ولكن إن قرر الأسد عدم الانصياع، فهنا تكمن المشكلة، فبوتين بعد أن وضع قواته وسمعته على المحك لا يمكن أن يشد الرحال من سورية!
وبالتالي قد يكون لبوتين دور أطول في سفك الدماء، وأن يعلق في الفجوة الأيديولوجية العميقة التي تفصل بين نظام الأسد وأعدائه، وفي الوقت نفسه، فإن التكاليف بالنسبة لروسيا ستكون هائلة، ويمكن أن تكون هناك مفاجآت غير سارة كهجمات إرهابية في عقر دار روسيا انتقاماً للموت الذي جلبته لسورية.
كما أن روسيا وتركيا قد تتصادما بسبب دعم روسيا لوحدات حماية الشعب الكردية، وإذا تعرضت تركيا لهجوم، فعلى حلف شمال الأطلسي الرد على ذلك، وهكذا سوف تظل روسيا والغرب على طرفي نقيض في غياب تسوية سياسية في سوريا وأوكرانيا، و سيكون على الرئيس الأمريكي القادم، الديمقراطي أو الجمهوري، عدم التسرع في رأب الصدع مع بوتين، لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية، بل على الرئيس القادم أن يظهر لبوتين أن المحتل الجديد للبيت الأبيض لن يبقى جانباً من الأمور الدولية.
و سيكون ذلك الأسوأ بالنسبة لروسيا لعدة أسباب: أسعار النفط، شريان الحياة للاقتصاد الروسي، والتي هبطت إلى أقل من 30 دولار للبرميل مقارنة مع 110 دولار في منتصف عام 2014، كما أن الروبل قد فقد نصف قيمته بالنسبة للدولار خلال نفس الفترة، كما وتتعرض احتياطيات النقد الأجنبي في روسيا لضغوط نتيجة كل هذه التطورات.
ومما زاد الطين بلة، أن الاقتصاد الروسي انكمش بنسبة 3.7 % في عام 2015، ومن المتوقع أن يستمر في عام 2016، وهناك دلائل تشير إلى أن الظروف الاقتصادية الصعبة ستخلق اضطرابات عامة، وفي ظل هذه الظروف، قد يجد بوتين أن الحروب المفتوحة في أوكرانيا وسوريا أمر لا يمكنه تحمله.
ما القرارات العقلانية التي يجب على بوتين اتخاذها تجاه سورية وأوكرانيا؟
الأحد : 06 مارس 2016
