في رمال الصحراء: "داعش" في مواجهة سوريا الجديدة - It's Over 9000!

في رمال الصحراء: "داعش" في مواجهة سوريا الجديدة

تركي المصطفى

في أواخر أيار/مايو 2025، عادت "الدولة الإسلامية"، أو ما يعرف بداعش، لتطل برأسها من جديد في الأراضي السورية، موجهة ضرباتها نحو قوات الحكومة الانتقالية في شرق السويداء. هذه الهجمات، التي استهدفت مركبات تابعة لوزارة الدفاع السورية في منطقة تلول الصفا باستخدام عبوات ناسفة بدائية الصنع، لم تكن مجرد عمليات عابرة، بل إشارة واضحة إلى أن التنظيم لا يزال يحتفظ بقدرات تنظيمية مرنة، وشبكة اتصالات برية تمتد كالأوردة عبر الصحراء السورية الوسطى وجنوب البلاد. وهذه العمليات، التي نفذت في الثاني والعشرين والثامن والعشرين من أيار، هي الأولى التي يتبناها التنظيم في جنوب سوريا منذ عام 2023، والأولى التي تستهدف الحكومة الانتقالية التي تحاول فرض سلطتها في مرحلة ما بعد الأسد.

لكن هذه الهجمات ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تخطيط عميق يعكس قدرة داعش على استغلال الفراغات السياسية والأمنية. فالتنظيم، الذي استهدف أيضا وحدات من الجيش السوري الحر والفرقة 70 المدعومة أمريكيا في منطقة خفض التصعيد بالتنف، أظهر قدرة استثنائية على الحفاظ على خلايا نائمة، تنتظر لحظة الضعف لتنقض. وإن خطوط الاتصال البرية، التي تربط بين جنوب سوريا والصحراء الوسطى، ليست مجرد ممرات جغرافية، بل شرايين حياة تمكن التنظيم من المناورة والتراجع وإعادة الإمداد. فالصحراء، بكثافتها السكانية المنخفضة، ليست ملاذا آمنا فحسب، بل معسكرا خفيا لإعادة التسليح والتدريب، حيث يجد المقاتلون فسحة لإعادة ترتيب أوراقهم بعيدا عن أعين الرقباء.

تاريخيا، كانت منطقة تلول الصفا في ريف السويداء الشرقي نقطة ارتكاز لعمليات داعش. في حزيران/يونيو 2022، شهدت هذه المنطقة نشاطا مكثفا للتنظيم، مما يكشف عن استمرارية حضوره في هذه البقعة النائية. لكن الهجمات الأخيرة ليست مجرد امتداد لنشاط سابق، بل جزء من موجة أوسع من التصعيد المتطرف في سوريا خلال أيار 2025. وقد أشار نور الدين البابا، المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، إلى أن انهيار نظام الأسد فتح الباب أمام خلايا داعش للاستيلاء على ترسانة أسلحته، مما عزز من قدراتها الهجومية. وفي رد فعل على ذلك، شنت الحكومة الانتقالية ثلاث عمليات واسعة النطاق ضد خلايا التنظيم في حلب وريف دمشق ودير الزور منذ منتصف أيار، في دلالة على تصاعد التهديد.

لكن هذه العودة لا يمكن فهمها بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي الأوسع. إذ أن سوريا، بجغرافيتها المترامية وتاريخها المعقد، كانت ولا تزال ساحة مفتوحة للتنافس بين قوى إقليمية ودولية، من روسيا إلى الولايات المتحدة وتركيا. كل طرف يسعى لفرض رؤيته على المشهد السوري، تاركا خلفه ثغرات تستغلها تنظيمات مثل داعش. الصحراء السورية، التي تمتد كبحر رملي لا نهائي، ليست مجرد مسرح للمناورات العسكرية، بل رمز للفوضى التي تتغذى عليها التنظيمات المتطرفة.

إن عودة داعش، أو بالأحرى استمرار وجودها، ليست مفاجأة. إنها نتيجة طبيعية لسنوات من الحرب، والتفكك الاجتماعي، وانهيار المؤسسات. فالتنظيم، الذي آوى في السابق قادته الكبار في جنوب سوريا، يستغل الآن الفوضى الناشئة عن التحولات السياسية ليعيد صياغة حضوره. لكن هذه العودة لا تعني بالضرورة إحياء لمشروع "الخلافة" السابق، بل هي محاولة لاستغلال مناطق نفوذ قديمة تم تهيئتها بعناية على مر السنين. وإن خطاب داعش، الذي يتحدث عن "توسع جديد"، قد يكون مبالغا فيه، لكنه يكشف عن استراتيجية واضحة: استغلال الفراغات، واللعب على وتر الاضطرابات، وإعادة بناء الثقة بين أنصاره من خلال عمليات نوعية.

في هذا السياق، تبرز مسؤولية الحكومة السورية الانتقالية كتحد وجودي. حيث أن بناء دولة قوية وشاملة، قادرة على سد الفراغات التي يستغلها داعش، يتطلب أكثر من مجرد عمليات عسكرية. إنه يتطلب استراتيجية شاملة تجمع بين الأمن، إعادة الإعمار، وبناء الشرعية السياسية. فالأمن وحده لا يكفي، لأن الصحراء السورية ستظل ملاذا للمتطرفين ما لم تملأ بالتنمية والحوكمة. وإعادة الإعمار ليست مجرد إصلاح للبنية التحتية، بل إعادة بناء النسيج الاجتماعي الذي مزقته الحرب. والشرعية السياسية، التي تعتمد على إشراك كل مكونات المجتمع السوري، هي السلاح الأقوى ضد أيديولوجيا داعش.

لكن هذه المهمة ليست محلية فحسب. إن الصراع في سوريا، كما كان دائما، هو انعكاس لتوازنات القوى الإقليمية والدولية. فالولايات المتحدة، التي تدعم قوات في شرق سوريا، وروسيا، التي لا تزال تحتفظ بنفوذها رغم تراجع دورها، وإيران، التي تسعى لإعادة تثبيت موطئ قدم لها بعد هزيمتها، وتركيا، التي تراقب الحدود بحذر، جميعها تتقاطع مصالحها في سوريا. وإن نجاح الحكومة الانتقالية يعتمد على قدرتها على المناورة في هذا المشهد المعقد، دون أن تصبح أداة بيد أي طرف. وإذا فشلت في ذلك، فإن داعش، وغيرها من التنظيمات المتطرفة، ستجد دائما ثغرات لاستغلالها، مما يهدد بإطالة أمد الصراع.

في النهاية، إن ما نشهده اليوم ليس مجرد عودة داعش، بل إعادة ترتيب لقوى الظلام في لحظة انتقالية حرجة. فسوريا، التي كانت يوما مهد الحضارات، أصبحت ساحة لصراعات لا تنتهي. لكن في هذه اللحظة، تكمن فرصة تاريخية. إذا نجحت الحكومة الانتقالية في وضع أسس دولة مستقرة، فقد تكون هذه اللحظة بداية لإنهاء دوامة العنف التي أنهكت البلاد لعقود. وإذا فشلت، فإن ظلال الفوضى ستظل تخيم على سوريا، وستجد داعش، وغيرها، دائما موطئ قدم في رمال الصحراء.


مقالات ذات صلة

"الخوذ البيضاء" تحل نفسها وتنضم إلى الحكومة السورية

معتقلو الرأي السوريون في السجون اللبنانية يعلنون إضرابًا مفتوحًا عن الطعام

تصريح امريكي جديد بشأن الاعتراف بالحكومة السورية الجديدة

قبل فوات الأوان.. مخاوف وهواجس أمام ضبابية المشهد في سوريا الجديدة

بيدرسون يدعو لتفعيل "الدستورية" وخفض التصعيد في سوريا

"الإدارة الذاتية" تصف علاقتها بنظام الأسد شأن داخلي

//