من النزوح إلى إعادة البناء: مبادرة قبرص لدعم السوريين - It's Over 9000!

من النزوح إلى إعادة البناء: مبادرة قبرص لدعم السوريين

تركي المصطفى 

في خطوة تكشف عن تقاطع المصالح الإنسانية والسياسية، أعلنت قبرص، تلك الجزيرة المتوسطية التي طالما كانت مسرحاً لتيارات الهجرة، عن برنامج جديد يستهدف العائلات السورية التي فرت من ويلات الحرب إلى شواطئها. هذا البرنامج، الذي يحمل عنوان "العودة الطوعية"، ليس مجرد مبادرة إدارية، بل هو تعبير عن محاولة دقيقة للتوفيق بين متطلبات السياسة الداخلية القبرصية وتحديات الواقع الإقليمي الذي ترسم ملامحه أزمة النزوح السوري.

البرنامج، كما كشف عنه نيكولاس يوانيدس، نائب وزير الهجرة القبرصي، يقدم حزمة مالية متواضعة للعائلات السورية التي تختار العودة إلى ديارها: 2000 يورو للبالغ، و1000 يورو لكل طفل، تُدفع لمرة واحدة. لكن اللافت للنظر هو ما يتجاوز هذه الأرقام. فالبرنامج يتيح للمعيل الرئيسي في الأسرة، سواء كان الأب أو الأم، البقاء في قبرص بعقد عمل يمتد لعامين، مع إمكانية التمديد لعام إضافي. هذه الصيغة، التي تجمع بين دعم العودة وتأمين مصدر دخل مستمر، تكشف عن فهم عميق للتحديات النفسية والاقتصادية التي تواجه المهاجرين السوريين. فالكثير منهم، كما أشار يوانيدس، يتوقون للمساهمة في إعادة بناء وطنهم، لكنهم يترددون أمام شبح الفقر وانعدام اليقين.

في هذا السياق، يبرز البرنامج كمحاولة لتحقيق توازن دقيق: من ناحية، يخفف الضغط على قبرص التي تستقبل أعداداً كبيرة من طالبي اللجوء السوريين – 4226 طلباً في العام الماضي وحده، وهو رقم يفوق بأضعاف طلبات الأفغان، ثاني أكبر مجموعة مهاجرة – ومن ناحية أخرى، يقدم للسوريين فرصة للعودة بكرامة، مع ضمان استمرارية دخل معيلهم. أما شرط إسقاط طلبات اللجوء أو إلغاء وضع الحماية الدولية قبل نهاية 2024، فيعكس رغبة قبرص في وضع حدود زمنية واضحة لهذا العرض، مما يضفي عليه طابعاً عملياً لا يخلو من حسابات سياسية.

لكن البرنامج لا يقتصر على الجوانب الاقتصادية. فهو يتيح للمعيل الرئيسي السفر بين قبرص وسوريا بحرية، طالما ظل تصريح إقامته وعملِه ساري المفعول. هذه المرونة ليست تفصيلاً عابراً، بل إشارة إلى إدراك قبرص للواقع المعقد في سوريا، حيث تظل عملية إعادة البناء محفوفة بالمخاطر والتحديات. وفي الوقت ذاته، تعكس هذه الخطوة استمرار التعاون الثنائي بين قبرص ودمشق، والذي تجسد في اتفاقية 2009 التي تتيح للسلطات القبرصية إعادة المهاجرين السوريين الموجودين في قوارب إلى بلدهم بعد إنقاذهم في المياه الدولية. وقد شهدنا تطبيق هذه الاتفاقية مؤخراً، حين تم إرجاع قاربين يحملان 60 مهاجراً سورياً.

ما يميز هذا البرنامج هو أنه ليس مجرد رد فعل على أزمة، بل محاولة لصياغة حلول إبداعية تأخذ في الاعتبار الجوانب الإنسانية والاقتصادية والسياسية. إنه يعكس، بمعنى ما، محاولة قبرص لإعادة تعريف دورها في معادلة الهجرة الإقليمية، ليس فقط كوجهة للمهاجرين، بل كشريك في بناء حلول مستدامة. لكن السؤال الذي يبقى معلقاً هو: هل ستنجح هذه المبادرة في تحقيق أهدافها؟ أم أنها ستظل مجرد تجربة محدودة في مواجهة تحديات الهجرة العاتية؟ التاريخ وحده سيجيب، لكن المحاولة بحد ذاتها تستحق التأمل.

مقالات ذات صلة

تقرير يكشف: العودة الطوعية للسوريين من لبنان "قسرية"

//